أبو القاسم الشابي: شاعر الحياة

أبو القاسم الشابي: شاعر الحياة
  • الشابي شاعراً رومنطقياً :

 

للوطن في نفوس ابنائه من الوشائج ما يجعله متوهجاً في القلوب و قد انبرى الشعراء الوطنيون لترجمة ذلك التوهج شعراً و مشاعراً ، فكان من بينهم شاعرنا بلقاسم الشابي الي برز وتميّز بنزعته  الرومنطيقية، فجمعت أشعاره بين صور الطبيعة و مكر السياسة، بين روحانيات التصوّف و الصراع المادي، بين الرومنطيقية و الوطنية، الشاعر الوطني المُرهف و الحزين أحيانا كأغلب الشعراء الرومنطيقيين، وهو كذلك الشاعر العاشق، عاشق تونس الجميلة :

” أنا يا تونس الجميلة  ** في لج الهوى قد سبحت أي سباحة “

 

و قد إرتقى بشاعرنا عشقه هذا إلى درجة الفداء و إنكار الذات و الإستعداد للتضحية بالنفس ليرسم بدمائه نور الحرية فيقول :

” لا أبالي و إن أرقت بدمائي ** فدم العشاق  دوماً مباحاً “

و تلك اللامبلات ليست فقط إنعكاساً لمدى إرتباطه بوطنه و وفائه له، و إنما لإلتزامه كذلك بمبادئ الشعر الرومنطيقي حيث لا يقاوم الشاعر أحاسيسه و إنما يترك لها المجال لتجتاح أعماقه و لتجرفه معها دونما قراءة في العواقب

(أنظرThe Eolian Harp  لـ Coleridge 1772-1834 ).

 

 

غير أن العامة من الشعب رُسمت لهم صورة مُناقضة لصورة هذا العاشق، ليبرز الشابي في حُلّت الشاعر المُفكّر، المُتفرّد بالتأمل في حال بلاده و أمته، المُتمرّد و الداعي إلى الإستيقاظ و الثورة، فيرصد الواقع المتدهور مُوظفاً الأسلوب الانشائي تعبيرًا عن غضبه مما وجد عليه أمته من جمود و خمول و رضوخ و رضى بالهوان و الإستسلام :

” فمالك ترضى بذل القيود ** و تنحني لمن كبلوك الحياة “

 

و في حسرته و لومه لشعبه على التفريط في تاج القيم الإنسانية أي الحرية، يستعمل بالقاسم أسلوب التشبيه لتقريب الصورة إلى ذهن المتلقي و تسهيلاً لتبليغ مقاصده :

” خلقت طليقاً كطيف النسيم ** و حراً كنور الضحى في السماء

تغرد كالطير أين اندفعت ** و تشدو بما شاء وحي الإلاه “

 

و هنا تتجلّى نزعته الرومنطيقية في إستنجاده بالطبيعة و توظيفه لصورها في وصفه و تشخيص عناصرها بالإعتماد على عنصرين لطالما إعتمدهما رواد الشعر الرومنطيقي في العالم هما النسيم و الطيور :

(أنظر Daffodils  لـ Wordsworth 1770-1850 و  To a Skylark  لـ Shelley 1792-1822).

 

 

 

 

 

ففي تشبيه موصوفه أو مُخاطَبِه بالنسيم إحالة على الطابع العفوي و اللامحدودية و عدم التقيّد بمكان أو زمان بالإضافة إلى التأثير الحسيّ و لكن الخفيّ في المحيط و الأشياء، أما الطير فهو الحريّة المطلقة، الجمال و صعوبة الإدراك، و هذه المتلازمة من أهم مميزات الذوق الرومنطيقي، فكلّ ماكانت عناصر الطبيعة صعبة الإدراك حسيّاَ أو بصرياً أو حتى عقلياً كلما زادها ذلك جمالية و سحراً و بالتالي مكانة لدى الشاعر.

كما يُشكّل إضفاء طابع القداسة على الطبيعة (إستعمال الشاعر المعجم الديني هنا) و الإحالة على القدرة اللامرئية الكامنة وراءها سُنّة لم يحد عنها الشعراء الرومنطيقيون حتى اللادينييّن منهم :

(أنظر Hymn to Intellectual Beauty  لـ Shelley).

و كشاعر رومنطيقي، لعبت الطبيعة دور مرجعيًا في فكر الشاعر و إحساسه، فهي ملهمته التي يرسم عبرها صوره الشعرية و يعبّر من خلالها عن تقلباته النفسيّة و يستمد منها مصداقية مواقفه، فهي المنطلق و المآل بالنسبة إليه بإعتبارها أصدق قائل فأنطقها حتى تكون شاهداً … فالطبيعة عند الرومنطيقيين هي المدرسة التي يتربى فيها الشاعر على ثلاث مراحل أولها مرحلة الطفولة و العفويّة ثم مرحلة الإعتماد على الحواس المجرّدة لفهم الطبيعة و الإستمتاع بها، إلى مرحلة الحكمة حيث يمكنه النظر خلال أو أبعد من الأشكال و الأجسام و العناصر المحسوسة.

 

من جهة أخرى يصوّر الشابي الطبيعة الغاضبة تعبيراً عن حنقه و حتى يُشعر المُتلقي بما يختلج في وجدانه من غضب شديد مستعينا في ذلك بعناصر مهيبة من الطبيعة كالأعاصير و الرياح القوية، كما يضفي حرفيّ الدال و الميم على هذا البيت قوة خاصة :

” دمدمت الرياح بين الفجاج “

و هنا يتجلى أحد العناصر المهمة في القصيدة أو الأدب الرومنطيقي بصفة عامة، و هو عنصر الرهبة (The Sublime)، و هو وقوف الشاعر أمام ظواهر و عناصر من الطبيعة تستفز فيه و في القارئ من خلاله شعوراً مُختلطاَ من الخوف و المُتعة، أشياء و ظواهر نخشاها و لكن في نفس الوقت يُمتعنا الحديث عنها، سماعها أو حتى رويتها عن قرب.

(أنظر Darkness  لـ Lord Byron 1788-1824)

 

 

 

  • الشابي شاعراً وطنياً :

 

لم تكن النزعة الرومنطيقية للشابي و ميله إلى التصورات الصوفية عائقاً أمام طرح قضايا شعبه و التبصّر في أوضاع و مستقبله، و لعل نزعته الرومنطيقية تلك أضفت على شعره صبغة مميزة جعلت قصائده و أبياته من أشد الأشعار الوطنية وقعاً على القلوب و تأثيراً في النفوس و رسوخاً في الذاكرة. فكان الناقد المُصلح و الساخط المُتمرد و الوطني الثائر.

و لعلّ أبرز ما يميّز لغة الشابي هي حزنه على حال شعبه و بلاده و تألمه لعدم إستيعاب شعبه للمدى السيّء الذي بلغته حاله.

و للتعبير عن حالة اليأس و القنوط و الخنوع المتفشية بين فئات من أمته، استعمل الشابي تقنية الدلالة الرمزية من قبيل الكهوف، الليل، الظلا م:

” و تقنع بالعيش بين الكهوف **فأين النشيد و أين الاباه “

و يواصل في ذات السياق لومه لشعبه الذي يرى أنه قد فقد حسّ الحياة، فتحول من قانع خانع إلى مُمتنع و رافض للإستيقاض  :

” و تطبق أجفانك عن الفجر ** و الفجر عذب ضياءه “

“و تسكت في النفس صوت الحياة ** القوي  إذا ما تغنى صداه “

 

فيثور الشابي على شعبه متسائلاً كيف لشعب فاقد للحرية أن يتلذذ بالحياة و يستطعم السعادة، شعب مُعرض عن الإستيقاظ بل مُنعدم الرغبة في البحث عن مصير أفضل، حتى يتسائل الشاعر إن كانت تُرهبه شُعلة الأمل :

” أتخشى نشيد السماء الجميل ** أترهب نور الفضاء في ضحاه”

 

 

 

 

لم يقف الشابي عند النقد و اللّوم، بل إتخذ من شعره سلاحاً للتطلع إلى واقع بديل فدعى إلى الإستيقاظ و الثورة و درء الجمود و التخاذل :

 

” ألا إنهض و  سر في سبيل الحياة ** فمن نام لم تنتظره الحياة “

و قد إعتبر الشابي الحرية  شرط الوجود الإنساني مُعتبراً إياها سُنّة و فطرة كونيّة :

” خلقت طليقاً كطيف النسيم **و حراً كنور الضحى في سماه

كذا صاغك الله يا إبن الوجود** و القتك في الكون هذه الحياة “

و سعى الشابي إلى التسلح بالعزيمة و التذرع بالحزم و تجسيم الإرادة مستعملاً أسلوب الشرط الذي يربط بين السبب و النتيجة ربطاً منطقياً :

” إذا الشعب يوماً أراد الحياة ** فلا بد أن يستجب القدر “

كما عمل على رفع المعنويات عبر التشجيع و الترغيب في الإقدام و المُغامرة و التقليل من عواقبها، أملا في تحفيز أبناء أمة على مواجهة الإستعمار:

”  و لا تخشى مما وراء القلاع ** فما ثم إلا الضحى في صباه “

 

وظف أيضاً الأسلوب الحكمي و يعبر هذا الأسلوب عن نزعة الشابي إلى الإطلاق و التعميم إذ أنه لم يقيد مضمون شعره بشكل مباشر بمكان أو زمن معيّن، فجاءت أبياته في شكل حكم و مواعض و صور و أمثلة  متصلة بالإنسانية عامة و صالحة لكل مقام و مقال، و هو ما حوّل أشعار الشابي إلى حكم مواعض خالدة :

” و من لا يحب صعود الجبال **يعيش أبد الدهر بين الحفر “

من هنا، عقد الشابي مقارنة بين القمة بما تعكسه من تألق  و بين الإحالة على الحفر التي تدل على القاع الذي يبتلع الإنسان دون أن يخلده. و في هذا البيت بالذات تتجلّى فلسفة القوة و روح التحدي لدى الشابي.

و للكشف عن شدة إنفعال الشاعر بواقعه و رغبته في استنهاض الهمم إستعمل الإيقاع الحماسي :

” لا بد لليل أن ينجلي **و لا بد للقيد أن ينكسر “

 

لم يقتصر شعر الشابي على بث روح المقاومة في النفوس فقط بل عرج على المستعمر فشهّر بأفعاله و فضح صورته الحقيقية، فانكشف المستعمر في قصيدة الشابي في شكل صورة دموية تشف عن وجه عدواني يحمل من البشاعة و الفظاعة ما يستفزّ النفوس الحرة فتهب هبة الحق لنصرة المظلوم و الإنتقام من الظالم، و من أبلغ الصور التي رسمها الشابي في هذا السياق قوله :

” ألا أيها الظالم المستبد ** حبيب الظلام عدو الحياة “

 

كانت هذه الصورة شاهداً على أحوال المستعمرين في كل آن و أوان، إستخفافاً بالشعوب و هدراً لدماء الأبرياء … و لم يمنع جبروته ذاك الشابي من تحديه متوعداً إياه بالويل :

” حذاري فتحت الرماد اللهيب** و من سيبذر الشوك يجن الجراح “

و قد دعى إلى معانقة التقدم :

” إن ذا عصر ظلمت غير آن ** من وراء الظلام شمت صباحه “

 

 

=> صفوة القول، إستطاع الشابي بفضل تصوره الرومنطيقي للحياة أن يصوغ في شعائره عالم الطبيعة ففي التجائه إلى ملاذ الرومنطيقية استشعاراً للسلام الروحي بعد معانه لليأس إذ تمثل الطبيعة بلسم جروحه و موطن الحنان المفتقد آنذاك في وطنه.

 

بمعانقته للأرض و تشبثه بكل ماهو من وحي الطبيعة  تقمص الشاعر الوطني دور البشير بالحرية و النذير بالثورة و هو ما جعل الشعر الوطني إستشرقا لواقع بديل تغزوه شعلة  الأمل التي من شأنها أن  تغسل النفوس من الكرب عسى أن تتطهر من أحزانها و قد تنوع الشعر الوطني بمعاجمه التي نسجها الشابي  على نسج الإبداع و الإيقاع الموسيقي ما جعله لحناً تطرب له الآذان فتترنم به ناسية أوجاعها و غازلة أحلامها المؤجلة إلى مدى قريب.

 

https://www.9awmya.tn/%d8%af%d9%8a%d9%88%d8%a7%d9%86-%d8%a3%d8%ba%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d9%84%d8%a3%d8%a8%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%b3%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%a8%d9%8a/

أبو القاسم الشَّابِّي

الملقب بشاعر الخضراء شاعر تونسي عاش في فترة الإستعمار، ولد في قرية الشَّابِّية في ولاية توز. ولد يوم 24 فبراير 1909 بتوزر وتوفي يوم 9 أكتوبر 1934 بالمستشفى بتونس العاصمة.
https://www.9awmya.tn/%d8%aa%d8%ad%d9%85%d9%8a%d9%84-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a3%d8%a8%d9%88%d9%82%d8%a7%d8%b3%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%a8%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%a8%d8%ad%d8%a7%d8%ab-%d9%88%d8%ab%d8%a7/
https://www.9awmya.tn/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%91%d8%a7%d8%a8%d9%8a-%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%a9-%d8%a3%d8%a8%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7/

Visits: 4896

رأيان حول “أبو القاسم الشابي: شاعر الحياة

  1. محتوى الموضوع المتعلق بالشابي ذو دلالات متعددة وفيه نفع جزيل وذلك ما استحسنته في المقال،غير أنني أسجل عديد الأخطاء في الرسم واللغة،ربما نظرا لتخصصي في اللغة العربية أثار ذلك انتباهي..

التعليقات مغلقة.