فقر المياه في تونس كارثة بالإمكان تفاديها، بهذه الحلول
الفقر المائي : تعريف المفهوم:
يقدر معدل مستوى الطلب العالمي للمياه للفرد الواحد ب 1000 متر مكعب سنويا و خط ندرة المياة عالميا محدد ب 500 متر مكعب؛ بينما في تونس فإن المعدل التونسي يقدر بحوالي 450 متر مكعب مرشحة لبلوغ 350 متر مكعب سنة 2030.
إن هذه الإحصائية تعني وجود تونس تحت خط الفقر المائي بما يعني عجز موارد الدولة التونسية عن توفير المياه داخل اراضيها لمستعمليها من : مواطنين و نسيج إقتصادي: فلاحة، صناعة، خدمات و يعود هذا العجز لتضافر مجموعة عوامل : العامل المناخي الطبيعي، عامل التخطيط الإستراتيجي و التصرف في الموارد المتاحة.
الفقر المائي بين قسوة المناخ و انعدام التخطيط:
العامل المناخي : من الطبيعي أن تكون بلادنا تحت خط الفقر المائي، نظرا لموقعها الجغرافي و لطبيعة مناخها و تضاريسها لأن تموضع بلادنا الجغرافي و توزع التساقطات فيها يبين أن مناخ تونس يتميز بوجود 03 أقاليم بمعيار التساقطات : إقليم تلي رطب تتجاوز فيه كميات التساقط 400 مم سنويا وإقليم سباسبي شبه جاف تتراوح فيه كمية التساقط بين 200 و400 مم سنويا وإقليم صحراوي جاف لاتتعدى التساقطات فيه 200 مم سنويا & تتميز هذه التساقطات بعدم إنتظامها.
إضافة لما سبق فإن ندرة البحيرات و المسطحات المائية بالبلاد & تبخر قرابة 55% من التساقطات يدمر الموارد المتاحة ويعسر من تجددها.
التصرف في الموارد و إدارة الطلب على المياه:
إن التصرف في الموارد و إدارتها و إيجاد الحلول لمكافحة قضية الفقر المائي هو أساس عمل أجهزة الدولة. إذ بإمكان الدول إيجاد الحلول إزاء مشاكل الجفاف و ندرة التساقطات & تقدم العلم أشواطا كبيرة في سبيل حل مثل هذه القضايا. إلا أن الدولة التونسية لم تخط خطوات جدية نحو دراسة الوضع الهيدرولوجي التونسي و إيجاد الحلول لقضية الفقر المائي.
إن الحكومة التونسية تتعامل مع قضية المياه و التي تعتبر قضية شائكة و خطيرة بحلول من قبيل “الماجل” و الفسقية” معبرة بالتالي عن رجعية فكرية و تخلف تقني كبيرين & إن هذا التناول الرجعي و المتخلف لا يتفطن لجموعة إشكالات أعمق و أعقد و أشدّ خطورة .
إشكال إرتفاع ملوحة المياه الجوفية :
تعد المياه الجوفية مصادر مياه غير متجددة و ذات كلفة تجديد باهضة و قد وضعت الحكومات المتعاقبة على البلاد سياسات لإستغلال هذه المياه في إجابة الطلب المتزايد على مياه الشرب & لإجابة متطلبات الفلاحة السقوية & لإجابة متطلبات القطاع السياحي.
وتفيد المعطيات الرسميّة المتعلقة بكيفية استغلال الطبقات المائية الجوفية أن نسبة استغلال هذه النوعية من المياه في الجنوب التونسي تعدّ مرتفعة : قبلي 155% وفي توزر 84 % و في قفصة 76%.
وفي جهة الوسط تبيّن أن استغلال الطبقات المائية العميقة بلغ في ولاية القيروان 81 % و في صفاقس 76 % وفي القصرين 85 % كما و اتضح أن استغلال الطبقات المائية الجوفية كان مكثفا في ولايتي نابل 113 بالمائة وبن عروس 98 بالمائة مع العلم أن شبكة مراقبة الموارد المائية الجوفية تتكون مما يزيد عن 3700 نقطة مراقبة.
و بالتالي خلقت سياسات الدولة الإعتباطية إشكالا هيدرولوجيا و بيئيا : إرتفاع نسبة ملوحة المياه الجوفية من نسب مقبولة إلى نسب تقارب 2.7 غرام في اللتر و هذه نسب خطيرة و سجلت في عدة مناطق تونسية : جندوبة و بوعرادة و قرقنة و قابس و جربة و جرجيس.
تسيير المشاريع الفلاحية و ندرة المياه:
أقرّ الوزير السابق السيد محمد بن سالم بأن هنالك تبذيرا للمياه في المناطق السقوية وهو ما يهدّد المنظومة المائية علاوة على أن الفلاحين لا يقومون بدفع ما عليهم من أدائات تجاه مياه الري الذي تبلغ كلفته ما بين 650 و700 مليم للمتر المكعب مدعّم بحيث لا يدفع الفلاح سوى 140 مليم حتى أنه وفي بعض الزراعات المدعمة على غرار الحبوب لا يدفع الفلاح سوى 10 % من حجم كلفة المتر المربع أي 60 مليما للمتر المكعب. إن الدولة إذا بالإستناد على هذا التصريح تعتبر شريكا في تبذير المياه فهي من ترخص للفلاحين إستغلال المناطق السقوية على وجه التسويغ إهدار المياه بها يبلغ نسبة مخيفة تقدر ب 40% & هي من تقدم دعما مباشرا عبر تخفيضات في سعر المتر المكعب.
يجوز لنا الحكم بالفشل على السياسات التي إتبعتها الدولة و اجهزة الحكومة من حيث الموازنة بين سبل توفير الأمن الغذائي والأمن المائي، لكون هذه السياسات عجزت أولا على تحقيق الأمن الغذائي و هي تساهم في ضرب هذا الأمن الغذائي عبر إهدارها للثروة المائية كما أن نفس هذه السياسات فقرت تونس مائيا و الأنكى أنها ترى الحل في “الماجل و الفسقية”.
الفســـــــــاد :
يورد تقرير لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد واقعة تتمثل في قيام المصالح المختصة بوزارة الفلاحة و بدون وجود جدوى إقتصادية و بدون تخطيط سابق ببرمجة ثم بإنجاز بحيرة جبلية بأوتيك لفائدة ضيعة فلاحية تعود ملكيتها لصهر الرئيس السابق؛ و يورد نفس التقرير تجاوزا مماثلا يتعلق بإنجاز منشئة مائية بهضبة مطلة على خليج الملائكة؛ و تجاوزا ثالثا يتعلق بفساد إحدى لزمات تحلية المياه بجربة.
إن الفساد السياسي و الخور الإداري الذين تعاني منهما تونس يلعب دورا كبيرا في تعميق أزمة فقرها المائي فالمشاريع المنجزة في إطار لزمات و صفقات و عقود تحوم حولها الشبهات هي بشكل أكيد مشاريع لا تحترم ابسط شروط النجاعة و الكفاءة و لن تساهم فعليا في حل اشكالات المياه بقدر ما تعتبر عاملا من عوامل تعكير الوضعية التي تتردى فيها موارد الأمة المائية؛ كما أن المحاباة التي تترافق بشكل اكيد مع الممارسات الفاسدة تخلف آثارها و تترافق مع سلوكات مضرة: إهدار المياه في المرافق العمومية، الإمتيازات الممنوحة لموظفي شركة “الصوناد” (و غيرها) و التي تبلغ كمعدل بالنسبة لسنة 2009 مثلا قرابة 44% من كلفة إنتاج لتر من الماء.
إن الفساد الإداري و الممارسات و السلوكات المرتبطة به مثل: الرشوة، المحسوبية، الإهمال، تضرب في مقتل كل مجهود للتطوير و الإصلاح و تساهم في تعكير و تعقيد الوضع دون أدنى فرجة للإنفراج.
إن سلوكات الفساد و الإفساد تتمظهر كذلك في سلوكات الحفر العشوائي للآبار و الربط العشوائي و غير القانوني بالشبكة و رفض دفع الديون كل هذا وسط عجز للسلطة عن التعامل مع هذه المفات و تواطئها في أحيان كثيرة و هي في ذلك تتحمل المسؤولية السياسية الكاملة.
الإستراتيجية التونسية لمعالجة و تطهير المياه:
يقوم ديوان التطهير بمعالجة قرابة 243 مليون م3 سنويا عبر 112 محطة تطهير لا يعاد استعمال سوى 60 مليونا في ري الأشجار والزراعات العلفية (الى حدود 2015). بالإضافة إلى مواصلة شحن الطبقة المائية بالمياه المعالجة على أن يتم مراقبة نوعيتها من خلال التحاليل الكيميائية لعناصر التلوث وأيضا التحاليل البكتريولوجية. أي أن الدولة لا تمانع في تخصيص ميزانية لتطهير و إعادة رسكلة المياه المستعملة لكي تعيد إلقائها ثلاث أرباعها في البحر.
الــــــحــــــــــلـــــول: ما العمل؟
إن اشكال الفقر المائي و ندرة الموارد المائية لا يقتضي من المواطن بناء آبار أو مواجل، بقدر ما يقتضي وجود إرادة سياسية لحل الإشكال و إن تفتق ذهن أجدادنا في العهود السابقة عن مشاريع حلول لإشكال المياه : الفسقية في عهد الأمير أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب في القرن التاسع، تخطيط و قسمة إبن شباط التوزري للموارد المائية في القرن الثالث عشر، فإن أزمة المياه في تونس في القرن الحالي تقتضي حلولا من قبيل:
1. إعادة صياغة أولويات السياسة المائية للدولة عبر إيجاد سلم أولويات كالتالي:
أ. أولوية توفير مياه الشرب للمواطنين،
ب. أولوية توفير مياه الري للقطاع الفلاحي،
ج. أولوية توفير المياه للقطاع الصناعي،
د. أولوية التحكم في المياه التي يقع توفيرها للقطاعين الفلاحي و الصناعي.
2. تحجيم القطاعات المتطفلة على إستهلاك المياه : السياحة مثلا.
3. تحلية مياه البحر : التي تقدم فيها العلم بشكل كبير و بدأ في تقديم الإجابات و الحلول و الإجابات لكل الأسئلة و القضايا المتعلقة بكلفة هذه العملية ماديا و بيئيا و نذكر في هذا السياق تقنيات ترشيح المياه بالنانوفيلتر، او التقطير بإستعمال الطاقة الشمسية، أو عبر النضح العكسي.
4. تقنيات الاستمطار التي تعني استثارة وحفز السحب والغيوم لإسقاط محتواها من المياه الكامنة أو الثلج المتجمد فوق مناطق جغرافية محددة، عن طريق استخدام وسائل صناعية ومواد كيميائية تعمل على تسريع عملية هطول الأمطار أو زيادة إدرار هذه السحب من المياه مقارنة بما يمكن أن تدره بشكل طبيعي ;
=> كلا الحلين السابقين يطرحان إشكال البحث العلمي في تونس التي شهدت انشاء أول مركز بحوث تونسي في مجال المياه سنة 1959 و مركز البحوث في استعمالات المياه المالحة في الزراعة و يعود تاريخ إحداثه لسنة 1962؛ فأي إنتاج لهذين المركزين و هل قدما حلولا أو ابحاثا يمكن الإستئناس بها في إيجاد حلول لقضية الفقر المائي: ذلك هو التسائل الذي لم نجد له إجابة ؟
5. المعالجة الثلاثية للمياه المستعملة معالجة فيزيائية وكميائية وبيولوجية و إعادة إستعمالها في انشطة الري المسموح بها : قدرت كميات المياه المعالجة سنة 2015 بنحو 242 مليون متر مكعب في تونس و لم يتعد معدل إستغلالها 13 مليون متر مكعب سنويا فيم البقية تسكب في البحر أو الاودية و هذه خسارة كبيرة جدا.
6. تنقيح النصوص التشريعية بنصوص أشد صرامة مع تطبيق أحكام مجلة المياه وردع المخالفين
7. تعويض أو تعصير أو صيانة قرابة 70 بئر عميقة (تفوق 800م) فاق عمرها العشرون سنة بطول جملي 120 ألف كلم تروي قرابة 25 ألف هكتار بولايات قابس و قبلي و توزر بهدف تقليص الهدر و التبذير في هذه الولايات.
8. مواصلة التجهيز بمعدات الري المقتصدة للمياه لبلوغ نسبة%100 مع إيجاد مواصفات تونسية في هذا المجال.
9. تحديد تسعيرة لمياه الري تغطي مصاريف الاستغلال والصيانة وتجديد التجهيزات
10. سياسة التشجير و ذلك بهدف تلطيف المناخ و جلب الأمطار & مقاومة الزيادة المطردة في ملوحة التربة.
11. تحميل الأطراف التي تمتعت باجرائات “تدليلية” مثل النزل و المرافق السياحية مثل ملاعب الغولف؛ لمسؤولياتها في ما يخص إهدار الثروات المائية و إيجاد برنامج وطني للتشجيع على التقشف المائي.
12. بعث برنامج وطني للإكتفاء الذاتي في الإدارات و المؤسسات العمومية تستعمل فيه تقنيات رسكلة و معالجة المياه المستعملة و تعميم هذا البرنامج على مؤسسات البلاد.
13. التشجيع على الفلاحة المائية : الهيدروبونية و التي تمكن من ترشيد استهلاك المياه لنسب تبلغ 90% في بعض الزراعات.
14. محاربة ظاهرة الفساد و ممارساته و الذهنيات المنبثقة عنه.
و ختاما:
إن الفقر المائي معضلة تحتاج لبذل الجهد و إيجاد الحلول الحقيقية بمنطق العصر و ليس بمنطق العهدين الاغلبي أو الحفصي : من الواجب أن تطور بلادنا فلاحة ذكية مقلّة في استغلال المياه و من الواجب أن تمسك بلادنا بناصية العلوم و التقنيات و أن تطور البذور المشاتل المقاومة لدرجات الملوحة العالية و من واجب مخابر البحوث التونسية أن تستنبط حلولا للإفادة من المتوسّط لإنتاج مياه صالحة لإستعمالات الريّ و الشرب.
إن السير في ركب التقدم يقتضي و بشدة وجود إرادة سياسية تقدمية واضحة و من الضروري أن تتحلى النخب السياسية بمثل هكذا إرادة لكي تجد الموارد التي تمكنها من دحر الفساد و إنجاز الاستثمارات و إتخاذ الإجرائات الصارمة و إلا فإن مصيرها سيكون الإندحار وهذه الإرادة الصلبة المطلوبة لتحقيق التغيير المنشود يحب أن تعقبها إدارة علمية يتم تطبيقها من تخطيط، وتنظيم، وتوجيه، ورقابة و إلا فإن هذه الإرادة سوف تتحول من قيمة إلى شعار أجوف فاقد للمعنى.
Views: 14