بيت الحكمة بالقيروان.. أول مؤسسة علمية في شمال إفريقيا
توج الأمير إبراهيم الثاني الأغلبي (875-902م) جهوده في رعاية الحركة العلمية في إفريقة، بإنشائه أول جامعة بمعنى المؤسسة العلمية في شمال إفريقيا هي جامعة بيت الحكمة، و يعتقد المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب أن هذه الجامعة كانت في أحد قصرين : إما قصر الصحن أو قصر الفتح برڤادة، و أنها بنظامها و أقسامها كانت تشابه سميّتها في بغداد.
و لم يبقى من المعلومات عن هذه الجامعة إلاّ النزر السير، ربما بسبب نظرة عدم الرضا التي كان يرمقها بها المُتزمتون من أهل إفريقية لإشتغال الذين كانوا يؤمونها بالعلوم العقلية، فأغفلت العديد من المصادر ذكرها، و ربما لتخربها و حرق مكتبتها مع غزو بني هلال سنة 1057م.
و من المُرجح أنها كانت تضم خمس قاعات فسيحة فُرشت جميعها بالحصير و اللبود الجميلة، و نُضدت فيها الطنافس و المقاعد لجلوس المُدرسين و كبار الزوار. و قد أفردت إحدى هذه القاعات لتكون مكتبة، فأحتوت على عدد ضخم من الكتب نُضدت في خزائن و أرفف خشبية في شتى الموضوعات العلمية و الثقافية جُلبت من الآفاق، و إلى جانب الكتب كانت هنالك خزائن تُحفظ فها الآلات الفلكية و أدوات البحث العلمي الأخرى.
و خُصصت قاعة أخرى لأعمال النسخ و الترجمة، إذ أنه كان مُرخصاً للنسّاخ أن يقصدوا هذه الجامعة لإستنساخ ما تضمه مكتبتها من كتب سواء لأنفسهم أو لغيرهم بالأجرة، فكانت هذه القاعة تبعاً لذلك تعج بالنسّاخ في معظم ساعات النهار.
و أما القاعات الأخرى، فقد خُصصت للدرس و المُناظرة حيث كان الأستاذ يجلس على كرسي و يُلقي مُحاضراته على الطلبة الجلوس بين يديه في صفوف تزيد أو تقل حسب شُهرته، و نوع المادة العلمية التي يتناولها في تلك المُحاضرات، و كان يُساعد الأساتذة مُعيدون يتولون الردّ على أسئلة الطلبة بالشرح و التوضيح.
كما كانت هنالك أوقات تُخصص للعلماء تدور فيها المُناضرات بينهم في مواضيع مُختلفة بحضور الزوّار و طلاب العلم، كثيراً ما كان يشهدها الأمير إبراهيم و يُشارك فيها أحياناً.
و كان يُشرف على نظام بيت الحكمة قيّمون مُهمتهم السهر على ما فيها من كتب و آلات، و المحافظة عليها من التلف و الضياع و صيانتها، ثم تقديم العون لمن يؤمها من العلماء و الطلبة و الزوّار و مُناولتهم ما يرغبون فيه من كتب أو آلات، و يرأس هؤلاء الرئيس أو الناظر الذي كان يُختار عادة من بين الشخصيات العلمية المرموقة و يُدعى صاحب بيت الحكمة، و الذي كان بالإضافة إلى هذه المهمة الإدارية يضطلع بمهامّه العلمية من تدريس و مناظرة و بحث علمي، و كان أبو اليُسر الشيباني أول من تولى هذا المنصب.
و أما الهيئة التدريسية، فقد إختراها الأمير إبراهيم من بين العُلماء الذين ضمهم بلاطه، و أول من يُذكر منهم أبو اليُسر الشباني الذي كان حُجة في العلوم النقلية و بخاصة اللغوية منها، إلى جانب براعته في العديد من العلوم العقلية و بخاصة الرياضيات حتى لُقّب بـ(الرياضي).
ثم إسحاق بن عمران الطبيب المشهور، و الذي أخذ عن مشاهير أطباء العراق، و درس العلوم الفلسفية و غيرها من العلوم العقلية، فبرع في الطب و الصيدلة و علوم الطبيعة فضلاً عن الفلسفة، و قد إشتهر بلقب سُم ساعة، ربّما لسرعة تأثير الأدوية التي كان يصفها للمرضى، أو لمهارته في تركيب السموم، أو لكلا الأمرين معاً.
و كان من أوائل أطباء المسلمين الذين درسوا الطب النفسي، و يُعتبر كتابه في هذا العلم (المالنخوليا |Melancolia ) الذي وصف فيه أمراض الوسواس أو المرض السوداوي و طُرق معالجته من أول مُصنفات المسلمين في هذا المرض، و الذي ترجمه قسطنطين الأفريقي إلى اللاتينية في القرن 11م، فكان بذلك من أول كتب علوم المسلمين التي وصلت أوروبا.
و إلى ذلك من ألمع عُلماء العصر أمثال زياد بن خلفون و سعيد بن عثمان بن سعيد المعروف بـالصيقل و عبد الله بن الصانع و إسماعيل بن يوسف الطلاء المنجم، ثم أبو بكر بن الڤمودي المشهور بـالفيلسوف، و محمد بن أحمد بن فرج و إبن البريدي و إبن القيار و إبنيّ الجزار و بكر بن حماد و سعيد بن الحداد …
Views: 315