الواقع القبلي التونسي في القرن 19 و الوعي الوطني/القومي التونسي
“القيادة”، “العرش”، “الوطن” ..
تسميات يقصد بها الوحدة الإدارية المكونة لقسم من المجال: مدينة، قرية، عرش & لكن ها التسميات مشحونة برغبات في الحفاظ على خصوصية ذاتية من تسلط الدولة، و مشحونة بمعاني التحرر من هذه السلطة، و مشحونة بمعاني الولاء للقبيلة، العرش، العايلة …
فإلى أي مدى كان الواقع القبلي التونسي مرادفا للفوضى و لغياب الوعي بالمجال ؟
منذ أواسط الفترة الحفصية، ميز الاستقرار غالبية العروش و القبائل و تزايدت هذه الظاهرة مع المراديين فالحسينيين و أصبح التوطن ( = أي الإستقرارفي أوطان) هو السمة الغالبة على المجال الداخلي في بلادنا. (راجع مقالنا “المجموعات القبلية و إختيار الإستقــــرار التــونسة”)
ظاهرة التوطن مكنت من تطوير إرتباط المجموعات القبلية بالأرض و بالمركز السياسي و نتج عنها توسع كبير في المستغلات الفلاحية: تضاعف غابة الزيتون 10 مرات بين القرنين السابع عشر و التاسع عشر(¹) . و رغم رسوخ مظاهر إرتحال موسمية إلا أن وطن القبيلة مثل نقطة إرتكاز بها و نقطة إستدلال لها : وجود مقابر، روابط، زوايا، دور، أبيار في سنة 1874، إحتجت السلطة التونسية على قيام الفرنسيين بالإستيلاء على قطعة أرض “بير الكاهنة” تتبع عرش أولاد حمادي من الفراشيش مستندة أن وجود ” … مقابر الأجداد و عدة مزارات للشيخ سيدي حمادي تقضي بأن بير الكاهنة ليهم و أنه أرض تونسية لا محالة”.
إرتباط القبيلة بفضاء جغرافي محدد “ميّع” من صرامة بنيانها : إستقبالها لل “براني”، “الطيّاش”، تمكينه من تملك الأراضي، التزاوج مع أفراد القبيلة & بالتالي تحولت القبيلة إلى خلية جبائية و نسبة مرجعية.
إستقر التنظيم البشري للبلاد و إرتبط ب”الوطن” أي تراب القبيلة و بكرسي الحضرة التونسية اذن وجدت علاقات ملكية : عقود ملكية خاصة، رسوم تحبيس، ملكية عرفية، ملكية مشاعية & وجدت سوق تنظم التبادل التجاري و تنشر الأنتاج الثقافي & بانت الحاجة لسلطة تضفي الشرعية على هذا التنظيم : سلطة تقر رسوم الملكية و تصدر العملة و تساهم في حماية القبائل من تعسفات المعتدين و صار المعتدي في الغالب أجنبيا: السلطة الفرنسية في الجزاير.
أما العنف : أعمال الإغارة بين العروش، أعمال الإغارة على الواحات، أعمال قطع الطريق فعلى قدر ما تحيل على وجود غياب لمؤسسات رقابية وطنية أي تسيب المجال إلا أن هذا العنف كان: ظرفيا أولا و كان مقبولا عرفيا ثانيا أي أنه عرف تتبناه الوحدات الاجتماعية و يمثل مصدر وحدة تقافية بالنسبة لها :” نحنا نعيشو هكة “.
عرف أحمد باي الإغارة في إحدى رسائلة أنها: ” والقدرة على أخذ الأموال و قتال من دافع عنها كما كان ذالك جبلة في العربان و رزقنا الله على إجتثاث أصله” و في هذه الجملة تعبير عن بديهية هذا العمل و كونه لا يمثل خطرا على سلطة الدولة و لا يضع سيادتها محل تساؤل، و لا يخفي وجود آليات لتدخل السلطة أهونها القضاء التوفيقي: توكيل المشايخ و الخلفاوة مهمه معاقبة اعمال الحرابة و تعويض المتضررين و أشدها الحملات العسكرية التأديبية.
?? ظاهرة الصفوف : هل هي حقا دليل إنقسام مجتمعي تونس ؟
يخضع المجال التونسي لقاعدة الحكم بالعاصمة و يصيبه التزعزع و التصدع كلما تصدعت هذه القاعدة المركزية & لعل أبرز صدع/إنقسام داخلي هو الإنقسام الشهير لصف حسيني و باشي نسبة للحرب الأهلية بين “حسين باي” و “علي باشا” في القرن 18، و قد فرض هذا الإنقسام نفسه كمعطى بديهي لكل دراسة تتعلق بالمجتمع التونسي: أبحاث مونشيكور، جون غانياج، اندري مارتال، و تقارير الجنرالات الفرنسيين قبيل الحماية و كذلك في الإتحاف لإبن ابي ضياف؛ إلا أن إستعراض الكتابات التاريخية في الكتابات التاريخية في النصف الأول من القرن 19 لا يحيل لوجود “ظاهرة” إنقسام دائم و لا يطرح أي تسمية لحالات التنافس/التحالف الظرفي الذي تشهده البلاد.
إن مصطلحي “باشي”/”حسيني” هما صياغة لأحمد إبن أبي ضياف وصف فيها التحالفات و التمترسات الحزبية سنة 1728 بالإستناد إلى واقع مغاير بعد أكثر من قرن من تاريخ الأحداث سنة 1864؛ فالانقسام المزعوم كان نسبيا من حيث التوزع الجغرافي: تغير العروش و القبائل و العائلات و الجهات و الأحياء ولائاتها و مواقفها حسب الظرفية فمثلا هاهم “الغريانيون القراوة” يساندون “علي باشا” في الوقت الذي كان “حسين باي” موجودا داخل القيروان، و هاهو ربط باب سويقة يساند “حسين بن علي” بينما مال ربط “باب الجزيرة” لعلي باشا .. ثم هاهو ربط باب سويقة يساند “علي باشا” بينما جاهر ربضا “المدينة” و “باب الجزيرة” بمساندة إبنه يونس & تظفي التغيرات المتعددة في الظرفية على سلوك المجموعات الحضرية و القبلية سمة الإنتهازية فلا يجوز بالتالي تحميل إنقسام سياسي عارض صفة الدوام.
ظاهرة الصفوف التي أريد منها تأييد الطبيعة الإنقسامية للقبيلة في بر “تونس” و بالتالي عدم وجود مجتمع تونسي موحد؛ ماهي إلا ظاهرة ظرفية مرتبطة بالرهانات السياسية و بالظرفية التاريخية فيصح إعتبار هذه الظاهرة تعبيرا عن الإحتجاج على تعسف السلطة و جورها صلب مجال حدوده الأمة التونسية : كل طرف قبلي يساند طرفا سياسيا خدمة لمصالح معينة و دون خروج عن :
1/ التموضع في فلك السلطة.
2/ التطور إلى تعبير عن هوية قبلية ثقافية، عرقية، سياسية.
فالطموح المحرك للقبائل التونسية كان طموحا في الإرتقاء لصف القبيلة المخزنية و كان الطرف الطامح في السلطة كثيرا ما يستقطب القبيلة مغريا اياها بالحصول على هذه المنزلة فحين إنتصر حسين بن علي على علي باشا سنة 1728 مثلا، ارتقت قبائل جلاص و أولاد عون لصف قبائل المخزن و حين هزم حسين بن علي على يد الباشا علي، إنجر عن هذا فقدان هتين القبيلتين لحضوتهما المخزنية و إقصائهما مقابل صعود قبائل ساندت علي باشا مثل وسلات و اولاد عيار بصف المخزن.
و قد كان لسياسة العفو التي استعملها “علي باي بن حسين”: العفو عن القبائل الثائرة ثم إدماج غالبية المجموعات القبلية في الخدمة المخزنية مع الباي “حمودة” دور في تهدئة هذا الطموح القبلي & كذلك سياسة التحديث التي مست المؤسسات التونسية : القضاء و العسكر كان لها دورها في تغيير التصورات التي يحملها الجنود التونسيون للبلاد و للإنتماء لها.
?? لم تمثل الظاهرة القبلية في تونس عائقا حقيقيا أما التحديث و التطوير السياسي؛ إذ أن الإشكال الحقيقي في بلادنا التونسية تمثل في غياب مشروع سياسي حقيقي عند النخب التونسية.
لم تطرح النخب التونسية تصورات جديدة لتحوير منظومة الحكم التونسية و المجتمع التونسي: بل لم تتفطن لوجود تخلف في منظومة الحكم التونسية فبالتالي لم تسع لتغيير هذه المنظومة.
و ما تزال سياستنا تعاني من غياب الوعي بوجود تخلف سياسي يتطلب تصورات جديدة للدولة و لأجهزتها و لعلاقتها بالأمة و لتمثيليتها للأمة التونسية.
____________________________
(1) فاطمة بن سليمان الأرض و الهوية ص 339
Views: 38