المجموعات القبلية و إختيار الإستقرار و التونسة

المجموعات القبلية و إختيار الإستقرار و التونسة

۩ الأمــــــة الــــتـــونــســيـــة :

 

” .. قال الرواي فأخذا ظهور خيولهم و أخذ الشيخ يودعهما و طال الكلام و هما يحدثانه فقال لهما انزلوا على ظهور الخيول اما سمعتم قول النبي لا تجعلوا ظهور دوابكم منابر قالا ما هذا إلا حكيم زمانه فأطلقوا أعنة خيولهم إلى أن أدركوا قومهما بباجة و قد أعجبتهم لوسعها و بعدها عن الأخلاط و أرض الحراثة قال الراوي فاجتمعوا قومهما عليهما و سألوهما ما ورائكم من الخبر فقالا يا قوم لقد رأينا بلاد متسعة غاية و خالية من المخزن و تصلح لرعاية الابل و الغنم […] فكان أول من نطق رجل يقال له يزيد قال لهم يا قوم كيف تتركون أرض الحراثة و تقيمون بارض غيرها و كيف تتركون بلاد الأمراء و تقيمون في أرض الغرض و ستحتاجون إلى الأمراء و تتمنونهم و لا تلقونهم …. ” (1)

 

۞ رمزيــة الروايـــة و تأويلها :

وجدت القبيلة البدوية الإفريقية نفسها إزاء ظرفية جديدة في إفريقية الحفصية؛ إذ أن إسترجاع السلطة القائمة بتونس لعنفوانهـا و فرضها لهيبتها عسكريا حط القبيلة أمام زوز خيارات : البــــــداوة بما تعنيه من التحرر من سلطة الدولة و الحرية التي لا تحدها سوى أعراف القبيلة؛ أو الإستقرار و الخضوع لسلطان مدينة تونس.
الرمزية تبان هوني في دعوة “حكيم زمانه” للفرسان للترجل عن خيلهم رمز حريتهم و إنعتاقهم و قوتهم العسكرية & تبان في رفض “يزيد” لدعوة الفرسان إنهم يخرجوا من بلاد باجة الخاضعة للسلطان و يهاجروا نحو بلاد واسعة و خالية من المخزن: القبيلة و العصبية القبلية الإفريقية بدات تتخلخل و تتفكك و بدات القبائل تستقر : سواء نتج هذا عن رغبة حرة و إلا عن خضوع لقوة قهر الدولة و السلطة السياسية.

 

۞ تغلب الــــــــدولة الجوالـــــــــــة على العصبية القبليـــة: توبة الأعراب و التتونس:

الإطار المطروح لهذه المقولة إلي أوردها العدواني هو القرن 14 و هو إطار إفريقيا الحفصية القوية، إطار السلاطين الأقوياء أبي العباس أحمد، أبو فارس عزوز، ابو عمرو عثمان؛ إطار الفقيه المفتي أبي القاســــم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي القيرواني الشهير بالبرزلي، إلي في عصرهم بدات السلطة السياسية تستند على قوانين و تصورات جديدة للتعاطي مع الشأن العام و بالطبيعة مع “القبيلة” شكل التنظم الاجتماعي و السياسي الأعرق في البلاد عبر :

 

۩ إصلاح الموات من الأراضي إستنادا للقاعدة الفقهية/القانونية ” المُتحجر علي المَوات له الحق في إحياءه عن غيره “ بإذن الإمام/السلطان في تونس و خاصَّةً في الأماكن التي فُتحتْ عُنوةً والمناطق المجاورة للأراضي المزروعة زراعة دائمة وآهلة بالسُّكان : أي أنه صار من الممكن إستصلاح الأراضي التي تضررت من البداوة و إقرار عناصر جديدة عليها و من ضمن هذه العناصر بدأت توجد عناصر قبلية فضلت الاستقرار و تعاطي الزراعة و الخضوع للدولة على الحرية البدوية صلب القبيلة.
إستصلاح الأراضي هنا لا يعتبر كراء و لا بيعا إنَّما هو حيازة تبيح استغلال الأرض بالزراعة والغرس في ظل حماية السلطان من ذوي الفساد من أهل الإغارة وغيرهم من الطُّغاةِ ، ويدفع الحائز مبلغ الجزاء علي أقساط معلومة لدار الجزاء الحكومية ، ويحصل علي براءة بذلك كما يدفع الخراج/الضريبة العقارية المقدر عليها.

۩ تملك السلطان لأراضي المرعى عبر قانون التحكير : هي أرض ملك الدولة تكريهاً لمَنْ في يده ، ويضعُ “الإمام مالك” سقفاً زمنياً للتَّحجير بثلاث سنوات وإلا فهي لمَنْ أحياها ، وفي الغالب كانت المراعي ضمن هذا النوع & ما يخفاش إن النشاط الرعوي كان هو عماد القبيلة البدوية في إفريقية وقتها، و بالتالي صارت مطالبة بدفع أداء/معلوم كراء للدولة نظير إستغلال المراعي.

 

۩ أرض الظهير و الإنتفاع : ” وهي الأرض التي لا ملك في رقبتها ، وإنَّما فيها انتفاعٌ ” و أبرز هذه الاراضي هي التي جاد بها السلطان الحفصي على القبائل التي ساعدته في الحملات الصليبية الفرنسية و الاسبانية على افريقية : ” تعويضاً عمَّا أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضةِ والذَّبِ عن الحريمِ ” فقد أقطع هؤلاء من الأراضي التي أُهملت منذ الغزو الهلالي ، وأصبحت علي حدِّ قول البرزلي بمنزلة المالِ المجهولِ أربابُهُ ، فآل حكمه إلي الإمام/السلطان الذي من به على القبائل إلا أن هذا المن و الإقطاع محكوم بقانون “لا يجوز بيعها ولا تقسيمها إلا بإذن الحاكم ، وعلي صاحبها أن يجدد ظهيرها كلَّما تولَّي السلطةُ حاكمٌ جديدٌ ، ولا يحقُّ الانتفاع بها إلا لمَنْ جُدِّدتْ له “.

الإصلاحات العقارية هذه أحالت على زيادة تدخل السلطة في الشأن الداخلي للقبيلة و تكييف القبيلة و تدجينها و توطينها فوق الاراضي و مطالبتها جبائيا بشكل دفع القبيلة للإستقرار على الأرض فالإنتاج.

۩ تقنيـــــــــــن العلاقات الإنتاجية : الشَّركةُ علي خُمسِ/ربع المحصولِ : الخماسة و الرباعة؛ هنا صارت ثورة فقهية و قانونية في البلاد على سلطة الأمر الواقع و تم إعتماد فتاوي جديدة تمكن الخماس من : المقدم أو التسبقة + تحديد المهام و إيجاد أجرة للمهام الزائدة + إعفائه من الزكاة و & إعتباره أجيرا و ليس شريكا و هذه ثورة قانونية حقيقية جعلت بعض القبائل تتفكك تلقائيا و يلتحق أفرادها بضياع في الجزأ الشمالي من البلاد.

كما أن تقنين علاقات الإنتاج الزراعية شمل نشاطات المغارسة التي إنتعشت بتوفر حد أدنى من الأمن في أرياف و ضواحي المدن الكبرى و إجازة الفقهاء لعقود المغارسة.

 

الإصلاحات الزراعية و القانونية نشأ عنها علاقات إنتاجية تشجع على العمل في القطاع الفلاحي و تمكن القبائل أيضا من إيجاد موارد جديدة مثل الموارد الناتجة عن حراسة المغروسات و الراضي الزراعية و خفارة القوافل بشكل نقص من حدة بداوة هذه القبائل و أنتج علاقات إجتماعية معقدة تربط مصلحة القبيلة بالفلاح بالحاكم و تدفع لمحاربة كل عنصر دخيل على هذه العلاقات مثل إستعانة السلطان بمخزنه و قبائل إفريقية لدحض تهافت الأعراب على فحوص مدينة تونس و دفعهم نحو الهوامش و هذا ما جعل إفريقية الحفصية تشهد ظهور و تكاثر التجمعات القروية : البلد، المنزل، القصر،الحصن، الطرش، البرج & الدوار.

 

۩ توبة الأعراب في سياق هذه الإصلاحات القانونية و الفقهية : تكاثر التجمعات السكنية و بداية تكون نسيج إجتماعي جديد إحتاج لتأصيل نفسه بالإعتماد على الصلاح و الفقهاء و الطرق الصوفية لإستدرار الحماية من السلطة السياسية زوايا الصلاح دعّمت الأمن من خلال استقطاب الأولياء الصالحين للأعراب وإدماجهم في الحواضر أو خلق أحلاف بينهم وبين أهالي الحواضر وقد استعملت لفظة التوبة للدلالة على هذا الانتقال في موقف الأعراب من الصراع مع الحواضر (الحرابة كما تقول المصادر) إلى الانسجام والتعامل السلمي.

و هنا برشا أمثلة ممكن الاستعانة بيها مثل أبي يوسف يعقوب الدهماني الذي قام برحلة كبيرة قبل أن يستقر بحاضرة إفريقية و إستقطب توبة أهاليه من البدو الأعراب في القيروان & أبو رحمة غيث الحكيمي الذي و بانخراطه في إحدى زوايا القيروان تمكّن بفعل ظهير سلطاني من الحصول على أراض شاسعة (هناشير) وتوارث أبناؤه هذا الإقطاع مستفيدين من ريعه عن طريق الكراء وأخذ ضرائب الحكر والعشر من المزارعين. وبهذا لم يعد انتماء الحكيمي لقبيلته هو المحدّد في نمط عيشه بقدر ما كان ارتباطه بالمخزن الحفصي و سعيه لكسب رضائه. و ساعد إقطاع هذه الأراضي للمتصوّفة على استقرار المجموعات القبيلة المفقّرة وعلى تحويلها تدريجيّا من نمط العيش القائم على الغزو إلى الاشتغال بالزّراعة بما ساهم في تونسة هذه القبائل.

#القومية_التونسية

___________________
(1)  كتاب الأرض و الهوية للباحثة التونسية فاطمة بن سليمان ص 155> نقلا عن <كتاب تاريخ العدواني ص 95/96>

Views: 22