معركة الناظور233 لإنهاء التواجد الفرنسي بالجنوب التونسي (جويلية 1961)
سنة 1961 خاض الجيش التونسي ، كجيش نظامي أولى المعارك ضد المستعمر الفرنسي الذي أبقى على قواعده في بنزرت وفي أقصى الجنوب التونسي وغيرها من المناطق الأخرى كمواقع خلفية لقمع الثورة الجزائرية التي اندلعت شرارتها سنة 1954.
هذه المعركة التي تندرج ضمن معركة الجلاء التي قررتها القيادة السياسية لإنهاء التواجد العسكري الفرنسي بعد إعلان الاستقلال للجمهورية التونسية، سأحاول تقديمها على عدّة حلقات كما وردت على لسان قائد هذه المعركة القائد عبد الله عبعاب رحمه الله، وفاء لروحه و لأرواح عشرات العسكريين و المتطوعين الذين استشهدوا او كتبت لهم الحياة رغم ضراوة بطش العدو المستعمر.
ساقوم بتدوينها كما وردت على لسان قائدها الضابط عبد الله عبعاب في كتابه شهادة على التاريخ، ليعرف شبابنا ملاحم اجداده التي تعمّد البعض طمسها او تغييبها .
مقدمة: (ملخص المعركة)
هي معركة جلاء الجيش الفرنسي على صحراء الجنوب التونسي او ما يعرف بمعركة النقطة 233.
لعل العديد من ابناء تونس لم يسمع اصلا بهذه المعركة باعتبارها متزامنة مع معركة الجلاء في بنزرت حيث دارت رحاها خلال ايام 18 و 19 و 20 و 21 و 22 جويلية 1961، برغم ما حققه فيلق اعزل من الجيش التونسي الفتي بقيادة الضابط عبد الله عبعاب و تحية المتطوعين من ابناء الجنوب التونسي.
كان هدف المعركة اجلاء القوات الفرنسية التي تحتل الحدود الليبية التونسية بالعلامة 233 قرب – قرعاء الهامل- تبعد على رمادة حوالي 350 كلم في اتجاه غدامس والتي كانت تحتوي على نقطة مياه وحيدة تحت السيطرة الفرنسية، (وهي اليوم تحت السلطة الجزائرية).
ارتكزت خطة المعركة على الأستيلاء على بئر الماء و افتكاكه من قوات الأستعمار الفرنسي، نظرا لحيوية الماء في صحراء كانت درجة الحرارة 52 يوم اندلعت المعركة، وهو ما لم يحل دون تحقيق نصر على الجيش الفرنسي برغم قلة الأمكانيات استطاع الجيش التونسي و المتطوعون محاصرة القوات الفرنسية بمدرعاتها و التي استنجدت بطائرات B26 المتمركزة في الجزائر ورغم عدم التوازي في الأمكانيات فقد خسر جيش الأستعمار 60 قتيلا و و3 سيارات مجمزرة و تم اسقاط طائرة بينما استشهد من الجانب التونسي 16 شهيدا .
لمن اراد الأطلاع باكثر تفصيل على معركة الجلاء بالصحراء التونسية يمكنه ذلك من خلال مذكرات القائد عبد الله عبعاب بعنوان شهادة للتاريخ الصادر سنة 2010 بتونس وهو موجود بالمكتبات التونسية. (بقلم، الأزهر عبعاب)
الحلقة الأولى : توتر العلاقات التونسية الفرنسية وبداية التحضير للمعركة
يقول القائد عبد الله عبعاب : كان حضور الجيش الفرنسي مصدر توتر دائم و استفزازات متكرّرة من الجانب الفرنسي. وأصبح الرأي العام الوطني حسّاسا للغاية لمسألة الجلاء العسكري عن الوطن.ولم يكد يخلو خطاب من خطب رجال الدولة و الحزب آنذاك، وفي مقدمتهم الرئيس بورقيبة من الإشارة إلي ضرورة جلاء الجيش الفرنسي عن تراب الوطن……قد خصص خطابه في 5 فيفري 1959 لمسالة الجلاء عن الصحراء التونسية وتعرض لمشكل حصن فرسان…فمن الواجب ان يصل الجيش التونسي الي العلامة 233 لحراسة الحدود اي على مسافة 15 كلم على خط غدامس….
وفي مطلع صيف 1961 اتخذت الأمور منعرجا خطيرا بعد ان استخف الجيش الفرنسي بتحذيرات السلطات التونسية من مغبة التمادي في تحديها من خلال مواصلة توسعة مطار سيدي احمد ببنزرت. وفي جويلية أعلنت التعبئة العامة في البلاد وأصبح شعار الساعة ” الجلاء السلاح” وفي 14 جويلية خطب بورقيبة في العاصمة ….: “قررنا خوض معركة الجلاء ولسنا مستعدين لتأجيلها الي ان ينجلي آخر جندي أجنبي عن أرض الوطن…” وفي 16 جويلية نشرت الصحف رسالة بورقيبة الي الجنرال ديقول …ومما جاء في تلك الرسالة : ” ان هدف تونس الحصول على جلاء القوات الفرنسية عن قاعدة بنزرت ومنطقة الحدود”
يواصل القائد عبد الله عبعاب قائلا : ” كنا بالجنوب نتابع تفاصيل هذه الفترة الهادرة من تاريخ بلادنا… وننتظر التعليمات …وفي منتصف جويلية تلقيت برقية من قائد الحامية العقيد الميساوي يأمرني فيها بالالتحاق بمركز تيارت لملاقاة مبعوث الديوان السياسي المناضل احمد التليلي …خلال اللقاء كان برفقة المناضل احمد التليلي والي مدنين السيد محمد الحبيب، قمت بتقديم عرض مفصل عن الوضع العسكري….واكد مبعوث الديوان السياسي انهم ينتظرون تعليمات القيادة للقيام بواجبهم الوطني وتحرير ارض الوطن وتطهيرها من دنس المحتل.
التحضير للمعركة :
” قفلنا راجعين، بعد انتهاء الأجتماع بمبعوث الديوان السياسي الي مقر الحامية ببرج فرسان حيث عقدنا اجتماعا موسعا ضم امراء السرايا ورؤساء الفصائل لقدماء المقاومين و المتطوعين وتدارسنا لساعات طويلة تفاصيل الخطة التي يتعين اتباعها عند مواجهة العدو…..
الحلقة الثانية: التحضير للمعركة
” قفلنا راجعين، بعد انتهاء الاجتماع بمبعوث الديوان السياسي الي مقر الحامية ببرج فرسان حيث عقدنا اجتماعا موسعا ضم أمراء السرايا ورؤساء الفصائل لقدماء المقاومين و المتطوعين وتدارسنا لساعات طويلة تفاصيل الخطة التي يتعين إتباعها عند مواجهة العدو.
تتلخص الخطة التي تم إقرارها في مهاجمة العدو في مواقعه ودحره إلي ما وراء قرعاء الهامل وتحديدا العلامة 233، و المحافظة على نقطة المياه الوحيدة بالنقطة و المتواجدة حذو حصن كركواي.لقد شكل الاحتفاظ بنقطة الماء هذه هدفا استراتيجيا وحيويا بالنسبة إلينا وهاما حتم علينا التفكير في رسم خطة دفاعية قوية تحول دون توصل العدو إلي احتلال هذه النقطة او تدميرها عند انطلاق المعركة.
يواصل القائد عبد الله عبعاب كلامه : كانت قواتنا معسكرة بالقرب من العلامة 220 أي أننا كنا على بعد23 كلم من موقع القوات الفرنسية، وكانت هذه الأخيرة مجهزة تجهيزا عصريا ، إذ كان لديها قوات إسناد جوي وكتيبة مدرعات خفيفة وبطارية مدفعية الميدان و غطاء جوي لحماية قواتها عند اندلاع الاشتباكات فضلا عن مصفحات مجنزرة لنقل الجنود خلال المعركة بهدف التقليل من الإصابات.كما كان لها مركز متقدم نحو 300 متر أمام حصن كركواي به سرية مجهزة بأسلحة دفاعية محاطة بأسلاك شائكة وحزام من الخنادق.
أما قواتنا فلا تملك شيئا شبيها بهذه الأسلحة و الآليات المتطورة إذ اقتصرت عدتنا على مضاء العزيمة والمعنويات العالية من ناحية ، و أسلحة خفيفة ومتوسطة وفصيل هاون 3 عقدة من ناحية أخرى. مع العلم أن الخطة التي ارتسمناها كانت تحتم علينا المبادرة بالهجوم على العدو ودحره عن موقعه العلامة 233 كما سبقت الإشارة.
وبعد ضبط الخطة التي سيتم توخيها في كلياتها و جزئياتها تم الأتفاق على توزيع القوات و المهام على النحو التالي :
– – السرية الثالثة أسندت قيادتها لليوزباشي مسعود السوسي بمساعدة الملازم سريحة وقد أوكلت لقائد هذه السرية مهمة حماية نقطة المياه قرب حصن كركواي التي تعتبر الهدف الحيوي للعدو كما سبق بيانه.
– – السرية الثانية بقيادة الملازم السنوسي ومساعدة الملازم احمد عبد القادر وتتمثل مهمتها في إسناد السرية الثالثة …عند الضرورة…
– – الصحة العسكرية كانت تحت إمرة الطبيب الهادي بالشيخ…. متمركزة بالقرب من الخط الأمامي وكان ثمة محطات صحية أخرى على طوال طريق فرسان – رمادة –البيبان – تيارت – تطاوين – مدنين. وكان بكل محطة ..طبيب وجراح وسيارة إسعاف.
– – فصيل النقل وضع تحت إشراف العريف علي فارس وصدرت تعليمات… بالارتداد للخلف قبل بداية المعركة خوفا من ان يصبح هدفا من أهداف طائرات العدو.
– – مقر الحامية بحصن فرسان ينسحب الي الخلف قبل بداية المعركة وخلال المواجهة لتأمين إصدار التعليمات…
– – الضباط : تتمثل مهمة ضباط التجهيز و التموين و العتاد في استقبال المتطوعين وتسليحهم و إرسالهم للخطوط الأمامية.
– – كما وضعت حضيرة الأمن العام بقيادة الطاهر ذياب والحرس المتجول وقائد سرية الحرس محمد حليطة وعلي المرزوقي معتمد رمادة والصحة الريفية بقيادة البشير عبد الكبير…
– على اثر انتهاء هذا الاجتماع التحضيري صدرت التعليمات إلي كل المسئولين ورؤساء الفصائل بالتحرك إلي مراكزهم والبقاء على أهبة الاستعداد في انتظار التعليمات….
الساعة صفر :
” قبل انطلاق المواجهة تم قطع ماء الشراب على المركز الفرنسي ببرج كركواي وذلك في محاولة منا لمعرفة مدى تأثير ذلك على جيش العدو وموازاة لهذه الحركة الاستفزازية أعطيت الأوامر إلي الجميع …أن يكونوا في حالة يقظة قصوى تحسبا لما قد يصدر عن العدو من ردود افعال.
وجدير بالإشارة إلي أن درجة الحرارة يوم 20 جويلية 1961 ، 52 درجة في الظل…. وبعد انقضاء نحو ساعة من قطع الماء على مركز العدو فوجئت قواتنا المرابطة بالخطوط الأمامية بطائرتين من نوع ب 26 ….
الحلقة الثالثة: الساعة صفر
” قبل انطلاق المواجهة تم قطع ماء الشراب على المركز الفرنسي ببرج كركواي وذلك في محاولة منا لمعرفة مدى تأثير ذلك على جيش العدو وموازاة لهذه الحركة الاستفزازية أعطيت الأوامر إلي الجميع …أن يكونوا في حالة يقظة قصوى تحسبا لما قد يصدر عن العدو من ردود افعال.
وجدير بالإشارة إلي أن درجة الحرارة يوم 20 جويلية 1961 ، 52 درجة في الظل…. وبعد انقضاء نحو ساعة من قطع الماء على مركز العدو فوجئت قواتنا المرابطة بالخطوط الأمامية بطائرتين من نوع ب26 تحلقان في سماء المنطقة ولم يدم تحليق الطائرتين طويلا اذ سرعان ما عادتا من حيث جاءتا دون ان يقع اطلاق نار من الجانبين…ثم تحركت قواتنا استعدادا للتقدم نحو الهدف المرسوم العلامة 233 بقرعاء الهامل.
في الحال تحرك الجيش الفرنسي لسد الطريق امامنا بواسطة كتيبة مدرعات خفيفة …توقف تقدم الفصائل…لصعوبة اختراق قوات العدو …لذلك تقرر عدم المجازفة بدفع قوات من رجالنا في لا سيما وان المسافة بين الطرفين المتقابلين لا تتجاوز 400 متر.
وفي تلك الآونة، وكانت الساعة تشير الي الثامنة مساء صدرت التعليمات الي فوج الأحتياط بقيادة اليوزباشي الهادي بالشيخ بالتحرك نحو مركز الجيش الفرنسي ببرج مسودة.وكان عليه ان يمر بكثبان الرمال كي يبلغ الهدف المحدد.
وقد تفطن العدو لخطتنا الرامية الي ضرب مقره الرئيسي بشكل مباشر …مما جعلهم يسحبون المدرعات من امام فصائلنا المتقدمة باتجاه العلامة 233. وبمؤازرة مع ذلك هاجمت طائرات العدو الفوج المتقدم مستخدمة الأضواء الكاشفة الا ان ذلك الهجوم لم يؤثر على قواتنا ذلك ان القنابل لم تنفجر نظرا لسقوطها في كثبان الرمال وغوصها فيها…. وفي حدود منتصف الليل من ذلك اليوم 20 جويلية 1961 تلقينا اتصالا من من اليوزباشي مسعود السوسي آمر السرية الثالثة المعسكرة بالخط الأمامي ، يحيطنا فيه علما بان قوات العدو تتاهب لشن الهجوم و شرعت في التحرك الي حيث البئر التي كانت على مبعدة 1000 متر .
وعلى الفور قمت بإخطار آمر الحامية بذلك و طلبت منه الأذن لي بالالتحاق بالخط الأمامي لشد أزر الجنود وشحذ معنوياتهم. والحق أني أعول على ذلك اشد تعويل لقناعة أن انهيار معنويات رجالنا على روحهم القتالية …قد يتسبب لا قدر الله، في احتلال نقطة الماء من قبل العدو، وهذا معناه خسارة المعركة.
ومثلما كنت أتوقع فان آمر الحامية رفض طلبي ، وهذا أمر مفهوم في العرف العسكري لأنه ليس من الحكمة في شيء المجازفة بقائد المعركة من خلال الدفع به إلي الصفوف الأمامية منذ اندلاع الشرارة الأولى للمواجهة.فالمنطق يقتضي أن يسهر القائد على إعطاء التعليمات لرجاله أثناء جميع مراحل سير القتال اعتبارا أن مقاتلين بدون قائد كناية عن سفينة بدون بوصلة.
لم أحفل برفض آمر الحامية وقررت مخالفته أوامره ملقيا بالعواقب جانبا. توكلت على الله ولسان حالي يردد :”سأتحمل مسؤوليتي، سأذهب إلي نهايات الأمور وليكن ما يكون”.
تقدمت إلي حيث الخط الأمامي حتى وصت موقع آمر السرية الأولى التي كانت تواجه العدو بشكل مباشر. وفي الأثناء تابعت القوات الفرنسية زحفها نحو قواتنا المرابطة أمام البئر على متن سيارات نصف مزنجرة تصحبها فرقة من المدرعات وكانت مدججة بأسلحة ثقيلة و متوسطة…
وحينما أصبحت قوات العدو على مسافة 500 متر من البئر أعطيت التعليمات إلي رجال الخط الأمامي بفتح النار على الجيش الفرنسي واستمر تبادل النار بيننا وبينهم حتى حدود الساعة الخامسة صباحا….
لقد تكبد العدو خلال هذه المواجهة ، و باعترافه خسائر فادحة قدرت بستين قتيلا، هذا فضلا عن تحطم ست سيارات مزنجرة …وفوق كل ذلك اخفق في السيطرة على البئر …ولم يتمكن من فك الحصار على مركز القيادة في المكان المواجه لقواتنا.
وفي الساعة التاسعة صباحا من يوم 21 جويلية اتصل بي قائد الحامية ليعلمني بأن جهاز اللاسلكي التقط مضمون برقية موجهة من الحامية الفرنسية إلي مقر قيادتهم بالجزائر وفيها طلب للنجدة عاجل بالتدخل من أجل كسر الحصار على مركز القيادة المقابل لحصن كركواي من خلال ضرب القوات التونسية التي تحاصره.
كما ورد في البرقية المرسلة إشارات أفادت أن وضع الجيش الفرنسي حرج للغاية وأن المحاصرين بالمركز يعولون على القوات الفرنسية بالجزائر لتمدهم ببعض قطع الغيار للآليات التي تعطبت خلال المواجهة مع المقاتلين التونسيين.
تأسيسا على مضمون تلك البرقية الملتقطة طلب مني آمر الحامية الاستعداد للمواجهة المرتقبة ناهيك وان العدو سيعتمد على سلاح الطيران بكثافة. وفي غمرة التحضير للصمود في وجه العدو أمكنني أن ألاحظ الروح المعنوية لرجالنا كانت عالية ومما لاشك فيه أن المواجهة التي حدثت خلال الليل قد أكسبتهم ثقة كبيرة في قدراتهم القتالية وآية ذلك الخسائر التي كبدوها للعدو وإحباط خطته…
في حدود الحادية عشر صباحا لاح في سماء المعركة ثلاثة أسراب طائرات مقاتلة وكانت قادمة من جهة رمادة تتقدمهم طائرة استكشاف من نوع ب 26. ولم يكد الجنود يلمحون الطائرات حتى شملهم الفرح لظنهم أنها طائرات تونسية هرعت لنصرتهم.
مرت الطائرات بسرعة هائلة فوق رؤوسنا باتجاه التراب الليبي المجاور ثم لم تلبث أن عادت على هيئة تشكيلة قتالية متهيئة لشن غارة مدمرة علينا. وهذا ما تم بالفعل إذ قامت الطائرات بقصف خطوطنا الأمامية بقنابل ثقيلة تبلغ زنة الواحدة منها 250 كلغ. وفي الحال أصدر آمر السرية الثالثة تعليمات صارمة لرجاله بان يلازموا أماكنهم في الخنادق، لأنه لم يكن هناك بد من توخي ذلك التكتيك القتالي بما أننا نفتقر إلي سلاح مضاد للطيران.
لقد كان ذلك الهجوم الجوي من القوة و الضراوة بحيث أبيد رجال الفصيل الأول بالكامل. كما خربت منشآت البئر الارتوازية ولقد اضطر آمر السرية إلي الدفع بالفصيل الثاني بقيادة الملازم سريحة في الصف الأمامي بعدما أحاق بالفصيل الأول من إبادة.
ولم يلبث الفرنسيون أن أعادوا الكرة من خلال شن غارة ثانية. والحق ان الموقف كان حرجا للغاية بعد وقوع اصابات في رجالنا بلغت 17 إصابة بين قتيل وجريح… وكان من بين الذين استشهدوا حامل جهاز اللاسلكي الذي كان بجواري.( ذكر لي عمي عبد الله عبعاب يوما كان مريضا أثناء زيارة الي باريس عندما كنا نتحدث على الموت و المرض قائلا : ابني الموت بيد الله وعرج على هذه الحادثة قائلا عندما أصابت الشظية هذا الجندي رحمه الله، مرت أمام وجهي وخدشتني خدشا طفيفا ولكنني أحسست برأس هذا الجندي و كتفه يسقط أمامي قال الحاج عبدالله عندها أدركت أنني لن يصيبني إلا ما كتب الله لي…).
الحلقة الرابعة: وتستمر المعركة
يواصل القائد عبد الله عبعاب روايته لأطوار هذه الملحمة التاريخية في معركة التحرر الوطني ضد المستعمر الفرنسي قائلا :
” لقد كان ذلك الهجوم الجوي من القوة و الضراوة بحيث أبيد رجال الفصيل الأول بالكامل. كما خربت منشآت البئر الارتوازية ولقد اضطر آمر السرية إلي الدفع بالفصيل الثاني بقيادة الملازم سريحة في الصف الأمامي بعدما أحاق بالفصيل الأول من إبادة.
ولم يلبث الفرنسيون أن أعادوا الكرة من خلال شن غارة ثانية. والحق أن الموقف كان حرجا للغاية بعد وقوع إصابات في رجالنا بلغت 17 إصابة بين قتيل وجريح… وكان من بين الذين استشهدوا حامل جهاز اللاسلكي الذي كان بجواري.( ذكر لي عمي عبد الله عبعاب يوما كان مريضا أثناء زيارة إلي باريس عندما كنا نتحدث على الموت و المرض قائلا : ابني الموت بيد الله وعرج على هذه الحادثة قائلا عندما أصابت الشظية هذا الجندي رحمه الله، مرت أمام وجهي وخدشتني خدشا طفيفا ولكنني أحسست برأس هذا الجندي و كتفه يسقط أمامي قال الحاج عبد الله عندها أدركت أنني لن يصيبني إلا ما كتب الله لي…).
وبموازاة مع شن الغارة الثانية تقدمت ناقلات الجنود الفرنسيين بغية فك الحصار على رجالهم المحاصرين في الموقع و كان عددهم يناهز المائة جندي ونقلهم للمواقع الخلفية. وعلى الفور صدرت التعليمات إلي آمر السرية الأولى بالزحف على المركز و احتلاله وهكذا أصبحت قواتنا في وضع هجومي وتمكنت من دخول المركز واحتلاله ورفع العلم التونسي خفاقا فوق مقره. و أمكن لرجالنا الاستيلاء على أسلحة و عتاد بالمركز المحتل.كما أنهم تجاوزوا موقع المركز وتوغلوا إلي الأمام بمسافة كيلومتر في أرض كانت خاضعة لمراقبة الجيش الفرنسي. وهكذا اندحر العدو أمام زحف قواتنا وانكفأ إلي نحو 3 كلم داخل التراب الجزائري.
ومن المهم هنا أن أوكد أن هذا النجاح الباهر لرجالنا قد تحقق في ظروف غاية في الصعوبة، فالغارات المستمرة للعدو حد جعل عملية إخلاء المصابين و الجرحى من رجالنا صعبة جدا ذلك ان الطبيب الهادي بالشيخ وحضيرة النقالة كانوا هدفا لطلق ناري مركّز من لدن العدو مما جعلهم عرضة للموت في كل لحظة، وعقّد بالتالي مهمتهم. وبالرغم من كل ذلك فقد نجح فريق الإنقاذ في إخلاء المصابين من ساحة القتال.
كما كان الاتصال بقائد الحامية قد توقف منذ بداية الغارة الجوية بعد استشهاد الجندي المسئول على اللاسلكي.كما اضطرت قوة القصف المتواصل فوج الاحتياط إلي التوقف عن التقدم وظل الفوج صامدا في موقعه ومن ألطاف الله أن الأضرار التي لحقت به كانت طفيفة.
ولا بدّ من أن أسجّل هنا أنه بالرغم من تعوّد رجالنا بقساوة الصحراء وأهوالها فانّ المعركة قد دارت في طقس حار للغاية اذ فاقت درجة الحرارة الخمسين درجة في الظل وهو ما جعل سير رجالنا فوق الكثبان الرملية ضربا من المعجزة.
ولأنني من الذين يعترفون بالفضل لذويه فأنني أموّه بما أبداه قائد الفوج و مساعدوه من خبرة و جرأة وصبر و أناة. كان الجميع هذه الخصال الدور الأكبر الحاسم في تذليل كل الصعوبات …
استمرّ تبادل إطلاق النّار متقطعا بيننا وبين فوج متقدّم من الجيش الفرنسي الي ما بعد الظهر. وكانت الفصائل التي تقدمت خلال الليل نحو العلامة 233 قد تعذّر عليها بلوغ هدفها إذ اختارت التوقف بعد ان قطعت 15 كلم و العودة عن أعقابها باستثناء فصيل واحد تقدّم ولكنه اضطرّ هو الآخر للتوقف بعد قطع 20كلم نظرا لنفاذ مدّخرات رجاله من المياه…
لقد سبق و ذكرت ان وحدات الجيش الليبي كانت مرابطة على الشريط الحدودي وتحديدا ما بين وحدات العلامتين 220 و 233 وأن التعليمات واضحة أعطيت لقادتها بمنع القوات التونسية من دخول التراب الليبي واستعماله منطلقا للوصول الي العلامة 233.
ولقد تبيّن لي – وهو من حسن حظي و حظ المقاتلين التونسيين- أن قيادة الفوج الليبي الذي أوكل إليه أمر مراقبة المنطقة الحدودية المذكورة قد تألفت من ضباط كنت قد أشرفت على تكوينهم بمدرسة ضباط الصف بطرابلس عام 1954 عندما كنت ملحقا بالجيش الليبي واذكر منهم على سبيل المثال اليوزباشي المختار البنغازي وعثمان عباس وخليل العبار و محي الدين المسعودي وعبد الله المنصوري …( للتوضيح عندما تخرّج القائد عبد الله عبعاب من الكلية الحربية ببغداد و باعتباره محاكم من طرف المستعمر الفرنسي لا يستطيع الدخول الي تونس و القطر الليبي الشقيق حصل على استقلاله فانه التحق بالجيش الليبي الفتي للمساهمة في تكوينه)
” لقد اتصل بي من ذكرت من تلاميذي القدامى قبل بداية المعركة و عرضوا عليّ مساعدتهم. و أسجّل هنا انهم كانوا في مستوى وعودهم إذ قاموا بنقل بعض الفصائل التي تعذّر عليها الوصول إلي أهدافها أما نتيجة ضياعهم في المفاوز الصحراوية أو بسبب نفاذ مخزونها من مياه الشرب وساعدوها على العودة إلي مقرّ الوحدة….
كنّا خلال مختلف أطوار المعركة عاجزين على الاتصال بمقرّ القيادة بتونس وكنّا نجهل تماما ما حدث خلال معركة بنزرت وعلمنا لاحقا أن المعركة كانت غاية في الضراوة وان العدو الفرنسي اقترف جريمة نكراء باستهداف المدنيين و العسكريين على حد السواء داخل بنزرت وخارجها وان الفرنسيين لم يتورّعوا عن استخدام قنابل النابالم الحارقة وعن قطع الماء و الكهرباء عن سكان بنزرت، وان ضحايا تلك الهجمة الوحشية قد فاقت المئات من القتلى و الآلاف من الجرحى وتدمير البنية التحتية و المصالح الحيوية….
والحقّ أن خسائرنا في الجنوب كانت بأقل من ذلك بكثير بل أن خسائر العدو فاقت خسائرنا رغم ما كان بحوزته من أسلحة متطوّرة ووسائل لوجستية حديثة جدّا….لقد قدّرت خسائرنا البشرية ب16 شهيدا و 9 جنود من وحدات الصحراء و 5 رجال من فوج الاحتياط ومدنيين من المتطوعين.أمّا الخسائر الماديّة فتمثّلت في تخريب حصن كركواي جراء القصف الجوي المركّز و نقطة الماء…
أمّا خسائر الجانب الفرنسي فقدّرت ب 60 قتيلا وعدد من الجرحى كما خسر العدو ثلاث سيارات مجنزرة و طائرة من نوع ب 26
فضلا على تجهيزات أخرى مختلفة و كميات من السلاح واد باش و عتاد تركها الجنود الفرنسيون بعد انسحابهم الدراماتيكي من مقرّهم…وأرى لزاما هنا أن أشيد بالدور الذي قام به الملازم الطاهر بن يحي و البعض من رجاله و المتمثّل في إصلاح ما ألحقه الفرنسيون بنقطة الماء الوحيدة من دمار جراء القصف الجوي …وجعلها صالحة للاستعمال في وقت قياسي و في ظروف صعبة جدّا معرّضين أرواحهم لموت محقق …( الماء يعني النصر في الصحراء لهذا كانت نقطة الماء محورية في هذه المعركة )….
الحلقة الخامسة و الأخيرة: الجيش الفرنسي يطلب الهدنة
في حدود الساعة العاشرة من صباح يوم 22 جويلية حوّمت طائرة قدمت من التراب الجزائري في سماء المنطقة ثمّ ألقت بكيس صغير في اتجاه مواقعنا قبل ان تعود من حيث أتت. وتبيّن لنا بعد فضّ الكيس أنّه يحمل رسالة ووثيقة قرّر قائد الجيش الفرنسي توجيهها إلينا. كانت الوثيقة عبارة عن نسخة من القرار العاجل الصادر عن مجلس الأمن والقاضي بوقف إطلاق النّار حالا ورجوع القوات المسلّحة إلي مواقعها. وأما الرسالة فقد تضمنت طلبا من قيادة الحامية الفرنسية بعقد لقاء يوم 23 جويلية بين الطرفين المتقاتلين في مكان يبعد عن ساحة المعركة بثلاثة أميال تقريبا.
وبعد التشاور مع قائد الحامية العقيد محمد الميساوي في الموضوع، وبعد موافقة هذا الأخير على التحول إلي مكان اللقاء . توجهت أنا و الملازم الأول الطاهر بن يحي إلي المكان المحدّد و في الموعد المحدّد. كنت أنا و زميلي مرتدين للزى العسكري وقبل بلوغ المكان بقليل اعترضنا الوفد الفرنسي وكان ممتطيا لسيارة جيب تحمل علما أبيض.كان الوفد مؤلفا من ثلاثة ضباط : عقيد ورائد و ملازم أول وكانوا مرتدين للباس عسكري أبيض.
تبادلنا التحية وعلى الأثر توجه العقيد إلينا بالكلام قائلا : ” نحن عسكريون ولسنا بسياسيين، و المطلوب منّا اليوم تطبيق وقف إطلاق النار، لقد أمرنا منذ أيام بالقتال وها نحن اليوم نؤمر بوقف القتال وما علينا إلا تنفيذ ما يصلنا من تعليمات من المراجع العليا.”ثم أنحى علينا العقيد باللائمة لأنني و رفيقي جئنا إلي مائدة الحوار مرتدين للزى العسكري، مضيفا أن هذا مؤشر قتال لا مؤشر سلم. وعلى الفور أجبت الضابط الفرنسي في لهجة حازمة :”نحن لم نحتل أرضكم اننا هنا في أرضنا ومازلنا متمسكين بمطلب الجلاء ومازلنا مصرّين على جلاء الناضور 233….”
لم أشأ الرّد على ملاحظة العقيد الفرنسي المتعلّقة باللباس العسكري.لقد تعمّدت ورفيقي ذلك لنشعر الوفد الفرنسي أننا لم ولن نستسلم وإننا مازلنا في حالة حرب حتى تعود إلينا أرضنا المغتصبة…
وفي نهاية ذلك اللقاء أعطانا العقيد الفرنسي مهلة للرد على مقترحاته وتطبيق ما جاء في القرار العاجل لمجلس الأمن…
وأرى لزاما عليا هنا أن أشيد بخصال رفيقي الملازم الأول الطاهر بن يحي الذي نهض بتأمين الترجمة ناقلا أقوالي إلي أعضاء الوفد الفرنسي بكل دقة و أمانة وصدق. لقد كان هذا الرجل رمزا للشجاعة و الانضباط والتفاني في خدمة الوطن…
تضارب في التعليمات أم تناقض في الأوامر….؟؟؟؟
وفي يوم 24 جويلية أطلعنا العقيد محمد الميساوي على برقية صادرة عن القيادة العامة تأمرنا بالانسحاب من المواقع التي حررتها قواتنا الباسلة خلال المعركة والتي كانت تحت سيطرة الجيش الفرنسي قبل اندلاع القتال يوم 19 جويلية كما سبق توضيحه…
نزل علينا الخبر نزول الصاعقة الماحقة، وطفقت أتشاور مع بقية زملائي قادة السرايا في شأن الأمر الوارد في البرقية وقد تركزت في العيون أمارات الذهول و الحيرة ونحن في حالة من الارتباك و القلق لا توصف.
وبعد تقليب الأمر على جلّ وجوهه اتفقنا على رفض التعليمات في برقية للقيادة العامّة…بمعنى آخر فإننا أجمعنا على عدم الامتثال لما أمرنا به وهو ما يسمّى في العرف العسكري عصيانا. ولقد كنا جميعا واعين بما ينتظرنا من عواقب نتيجة لذلك القرار. وما أن كدنا ننتهي إلي القرار الصعب حتى عاد العقيد محمد الميساوي إلي الاتصال بنا من جديد وطلب منّا الانسحاب تنفيذا لقرار القيادة العليا وألحّ في ذلك خشية أن تطالنا عقوبات قاسية جراء الإلقاء بأوامر القيادة العليا عرض الحائط لقائل لاسيما و البلاد تمر بواحدة من أكثر الفترات السياسية و العسكرية حرجا في السنوات الأولى من الاستقلال …لقد وجد كلام العقيد الميساوي قد وجد صدى في نفوسنا وهكذا استرخت شكيمتنا في الرفض و قررنا في النهاية الامتثال لقرار الانسحاب.
لقد وجدنا صعوبة في كظم غيضنا وما كان يعتمل في صدورنا من أسف وحسرة بل و إحباط. واشتدّ بي و برفاقي قادة السرايا نوبات هياج عصبي وطفقنا نتسأل بريق جاف : هل يعقل أن نتخلّى عن أرض خضّبت بدماء شهدائنا؟ و اشتدّ بنا الحزن وبكينا من شدّة التحسّر واجتاحنا إحساس حاد بالعجز و عبثية الموقف.
وفي ظهيرة نفس اليوم أمرت الملازم بن يحي بالذهاب لمقابلة الضباط الفرنسيين وإخطارهم بقبولنا الهدنة. وإعلامهم بأننا سنقوم بإجلاء المركز الذي قمنا باحتلاله شرط أن يبقى شاغرا ولا يستقرّ به العسكريون الفرنسيين ويظل الفضاء القريب منه مفتوحا لا يوظف لأغراض عسكرية…
لقد كانت لحظة إخلاء المركز لحظة قاسية للغاية على نفوسنا… اغرورقت العيون بالدموع و كنّا في غاية الانفعال ومرت بنا ساعات صعبة.. وفي اليوم التالي اي يوم 25 جويلية وبعد ان تمت عملية الانسحاب من المركز و المواقع المتاخمة له على النحو الذي بيناه أعلاه ونحن من القهر والأسى في غاية وردت علينا برقية من القائد الأعلى للجيش الوطني تضمنت تعليمات مؤداها عدم الانسحاب من المواقع التي تم احتلالها خلال مواجهاتنا المظفرة مع الجيش الفرنسي وذلك في أفق توظيف ذلك النصر كورقة للتفاوض في أمر الجلاء عن قاعدة بنزرت.
نزلت علينا تلك البرقية كنصل المقصلة وشملتنا حيرة كبيرة وقلق عميق وانقبضت القلوب وأطبق جو من الضيق وكدر والحاصل انّه لم يكن من السهل علينا قبول ذلك الوضع غير المريح بالمرة وبلّغت انشغالنا للقيادة العليا بالعاصمة…التي أمرت بان أتوجه في الحال إلي العاصمة للمثول أمام القيادة العليا….
رحم الله الحاج عبد الله عبعاب وكل ابائنا الذين شاركوا في هذه الملحمة وهم عزّل الا من توكلهم على الله و حبهم لهذا الوطن.
Views: 287