محمود قابادو 1817-1871: كيف إنحدر العالِمُ إلى الحضيض؟
أبو الثناء محمود بن محمد بن محمد بن عمر قابادو، أديب و شاعر و رياضي (من الرياضيات) من مواليد العاصمة سنة 1817، حفظ القرآن في كتاب متواضع حذو قشلة الزنايدية و ألم بقواعد اللغة العربية، المكون الأساسي للثقافة التونسية في القرن 19، و هو مازال بعد صبيا لم يبلغ الحلم .
و من ثم إتجه للنظر و الدراسة في كتب المتصوفة و الحكماء (الفلاسفة) و أصابه في هذه الفترة نوع من النشوز عن قواعد اللياقة دفعه للخروج عاريا في الشوارع معترضا سبيل المارة صيفا و شتاء و داعيا إياهم لذكر الله أو لاعنا إعراضهم عنه بكل بساطة و قد ساح محمود قابادو في المملكة و إجتاز حدودها إلى أن حط الرحال في الزواية المدنية الشاذلية في مصراتة حيث صار مجاورا في الزواية و معلما للصبيان فيها و قد أعادت له هذه التجربة لذة تحصيل العلم،
رجع لتونس و إنتسب لجامع الزيتونة حيث تتلمذ للشيخ الحنفي محمد بيرم الثالث المفتي ثم رئيس المجلس الشرعي، المولود سنة 1787، مع التدريس في الوقت ذاته. ودرس أيضا على الشيخ أبي العباس أحمد بن الطاهر اللطيف أصيل جهة الساحل، العالم الفقيه وتلميذ الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن الطاهر بن مسعود والشيخ حسن الشريف.
وواصل الشيخ أحمد بن الطاهر التدريس إلى أن عيّنه الباي قاضي المحلّة سنة 1838. و هو الذي أشار إلى أحد وزراء الباي، سليمان كاهية، بتعيين قابادو مربّيا لابنه أو مؤدّبا خاصّا، كما يقع ذلك عادة لدى كبار العائلات بتونس العاصمة.
أمّا أستاذ محمود قابادو الثالث، فهو الشيخ محمد بن صالح بن ملوكة الذي كان والده، هو أيضا، شيخا متميّزا. فتابع دروسه ودروس الشيخ أحمد بوخريص، قبل أنّ يصبح هو ذاته مدرّسا. ولعل الشيخ ابن ملوكة هو الذي كان له الأثر الأكبر في تكوين محمود قابادو، في حين درّبه الشيخ ابن ملوكة على العلوم الكونيّة التي كان يحذقها جيّدا، حسب طريقته في التدريس، القائمة على الجمع بين التعليم النظري والتعليم التطبيقي، مع ممّارسة الرياضة البدنيّة، مصداقا لقاعدة “العقل السليم في الجسم السليم”.
تلك هي المرحلة الأساسيّة الأولى من مراحل دراسات قابادو، وقد بدأ يهتمّ فيها بالعلوم الكونيّة بعد ما بحث كثيرا في “العلوم الحكميّة “.
سلك قابادو من جديد طريق الهجرة بعد وفاة مخدومه سليمان كاهية سنة 1838. وكان قد توقّع، فيما يقال، سقوط أحمد باي الأوّل الذي اعتلى العرش سنة 1837، ومن ثمّة خشي انتقام الباي، فكانت الاقامة في إسطنبول مفيدة له، إذ تابع بعض الدروس وتولّى هو ذاته التدريس، وتمكّن من الاجتماع في الوقت نفسه بعلماء المدينة، كما تدلّ على ذلك بعض القصائد الواردة في ديوانه وشهد في الوقت ذاته الشروع في تطبيق الاصلاحات في دار الخلافة العثمانيّة.
في مواقف قابادو:
عاد محمود قابادو إلى تونس سنة 1842 و درّس في المكتب الحربي بباردو و عرف عنه إعتناقه لعدد من الأفكار الإصلاحية الدارجة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عبر ريادته لحركة ترجمة لمجموعة من الكتب المتعلقة بالفنون العسكرية و محاولته شرح التطورات السياسية التي واكبها في تركيا اثناء فترة إقامته بها و عرف عنه دعوته لإتباع مناهج التنظيم الأوروبي لهياكل الدولة : التشريعات، القوانين، الدستور.
و هو القائل أن ” العدل لا يكون إلا في ظل حكم دستوري قاعدته الشورى، وأساسه رعاية الحقوق العامة، وبدون ذلك يظل صرح الدولة مقوضا وبناؤها ضعيفا، لا يصمد للأعاصير، ويعبث فيه كل سارق وناهب”.
إلا أن هذا الميل النظري للإصلاح تناقض مع مماراته للباي الصادق و مصطفى خزندار : موقفه الشامت في ثورة علي بن غذاهم، موقفه من إيقاف العمل بالدستور 1861& هذه من أكبر سقطات قابادو، و من أكبر سقطات النخب الإصلاحية حينها.
المعرفة في حد ذاتها سلطة و مسؤولية ربما أعظم تأثيرا من السلطة السياسية إلا أن تأثيرها مرتبط بقدرة حامل المعرفة العالم/المثقف على التأثير الفعلي و الحقيقي في السلطة السياسية و إنتاج أنساق فكرية، ثقافية و سياسية جديدة و هذا ما إفتقدته نخبنا الإصلاحية في القرن التاسع عشر : معرفة و إحتكاك بالمدنية الأوروبية و سخط على مشاريع التقليد الباهضة و في نفس الوقت مماهاة للسلطة السياسية المتخلفة و القانعة بالتخلف أو العاجزة عن اجتراح نسق سياسي حديث.
أصيب بمرض خبيث و توفي على إثره في سبتمبر 1871
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
. مدونة آل قابادو الإلكترونية،
. موقع الموسوعة التونسية
. تراجم المؤلفين التونسيين؛ محمد محفوظ
. مقال “قابادو وثورة علي بن غذاهم” لمحمد محفوظ
Views: 17