دفع عرشه ثمنا لأجل تونس : الشهيد المنصف باي
المنصف باي أو محمد المنصف باي، هو ابن محمد الناصر باي، ولد في 4 مارس 1881 وتوفي في غرة سبتمبر 1948 بمنفاه في فرنسا. من آخر البايات الحسينيين في تونس، تمت تسميته وليا للعهد يوم 30 أفريل واعتلى العرش الحسيني يوم 19 جوان من نفس السنة خلفا لابن عمه أحمد باي. واستمر في الحكم أحد عشر شهرا حيث تمت تنحيته في ماي 1943.
بمجرد أن اعتلى والده العرش عام 1906 قامت سلطات الحماية بتوشيح صدر المنصف باي بوسام الشرف الفرنسي من الصنف الأول وذلك في جوان 1906، . ولم يعرف له نشاط أو موقف مما جرى في تونس منذ الحين لا خلال معركة الزلاج ولا خلال أحداث الترامواي عامي 1911 و1912 ولا خلال ثورة الجنوب و لا خلال الحرب العالمية الأولى.
وفي إبان أحداث أفريل 1922 برز كمساند لأعضاء الحزب الحر الدستوري إذ دفع والده محمد الناصر باي لاستقبالهم. وفي تلك الأحداث طلبت الإقامة العامة من الباي إبعاد أبنائه ومن بينهم المنصف باي ومعاقبتهم. وبعد وفاة والده في جويلية من نفس السنة، فابتعد عمليا عن السياسة مكتفيا براتبه الشهري، ولم يكن ذلك كافيا له فكان يتداين ثم يتداين لتسديد الدين السابق . أما سياسيا، فبين عامي 1939 و1942 توفي ثلاثة من أولياء العهد، فوجد المنصف باي نفسه في 30 أفريل 1942 وليا للعهد، وقد أدى في نفس الأسبوع زيارة إلى الإقامة العامة، ولم يلبث طويلا حتى توفي أحمد باي في 19 جوان 1942، لينصب المنصف باي على العرش الحسيني.
صعد المنصف باي إلى العرش خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن استسلمت فرنسا أمام القوات الألمانية التي دخلت باريس، وأصبح نظام الحكم في فرنسا مواليا للألمان، وقد غذت تلك الهزيمة الشعور بأنها غير قادرة على حماية محمياتها بعد أن عجزت حتى عن حماية نفسها. ومما زاد في تقوية هذه المشاعر أن قوات المحور ما لبثت أن حلت بالبلاد التونسية في شهر نوفمبر 1942، أي بعد بضعة أشهر من تولي المنصف باي.
لم يوحي المنصف باي يوم تنصيبه بأنه سيكون مختلفا عن أسلافه حيث عبر في خطابه يوم توليته عن “إعجابه بالأمة الحامية واعترافي لها بالجميل” راجيا من المقيم العام “إبلاغها عبارات تعلقي الشديد بفرنسا… والتأكيد لها بأني عازم كل العزم، في عهدي، على تثبيت أركان العلاقات التي تربط بلدينا للأبد بفضل مساعدتي الصادقة المخلصة”. لكن ما لبث أن اندلع خلاف بينه وبين ممثل فرنسا في تونس الأميرال استيفا.
وقد أعلن عن مواقف غير معتادة من قبل البايات السابقين.
وتتمثل تلك المواقف فيما يلي:
1- صياغته لمذكرة بعثها إلى الحكومة الفرنسية يوم 2 أوت 1942 تتضمن 16 مطلبا أهمها :
-
العمل على تطبيق مبادئ التعاون التي أعلنت على رؤوس الإشهاد في العديد من المناسبات تطبيقا نزيها وبدون تردد والتي ضُمنت في نصوص خاب أمل التونسيين في تنفيذها.
-
المساواة في المرتبات والأجور بين الموظفين التونسيين والفرنسيين.
-
مشاركة التونسيين في مراقبة مداخيل ومصاريف الميزانية.
-
إلغاء مرسوم 1898 المتعلق بأراضي الأوقاف وحذف كل العقبات التي تمنع التونسيين من امتلاك أراض ريفية.
-
مشاركة السكان التونسيين بصورة فعلية وفي حدود عادلة في الحياة البلدية.
-
جعل التعليم إجباريا بالنسبة لجميع التونسيين مع تدريس اللغة العربية في كل المدارس.
2- قيامه بتسمية حكومة جديدة في 1 جانفي 1943 دون استشارة السلط الفرنسية، وكان على رأسها محمد شنيق وفيها وزراء وطنيون من أهمهم محمود الماطري – الرئيس السابق للحرب الحر الدستوري الجديد، وزيرا للداخلية، والمنصف المستيري القيادي في الحزب الحر الدستوري…
3- موقفه الرافض للإجراءات العنصرية التي أرادت قوات المحور فرضها على اليهود التونسيين، بوضع نجمة صفراء لتمييزهم عن بقية السكان، فما كان منه إلا أن أجاب بأن اليهود مثلهم مثل كلّ المواطنين التونسيين المسلمين.
بعد عودة القوات الفرنسية ضمن قوات الحلفاء من أمريكا وأنقليز، ودحر القوات الألمانية والإيطالية، تمت يوم 10 ماي 1943 إهانة المنصف باي أمام مقر الإقامة العامة ثم وقع تفتيش قصره بحمام الأنف من قبل الجنود الأنقليز ، وفي يوم 13 ماي تم عزله وتم ترحيله إلى الجزائر صبيحة اليوم الموالي نحو الأغواط بالجنوب الجزائري .
لقد كانت التهمة الموجهة إلى المنصف باي هو أنه تعامل مع الألمان استنادا إلى توسيمه عددا من الضباط الألمان عند وجودهم في تونس، والحقيقة أن ذلك كان بدعوة وإلحاح من ممثل فرنسا بتونس الأميرال استيفا، أما المنصف باي فقد اتخذ موقفا محايدا خلال الحرب، ومثلما أنه لم يساند الحلفاء فهو كذلك لم يساند المحور.
نفي المنصف باي أولا إلى الجنوب الجزائري بمدينة الأغواط، ولم يكن معه آنذاك إلا شخص واحد هو معينه المقدم الشاذلي قائد السبسي، وكانت تلك المنطقة معروفة باشتداد حرارتها، بهدف الضغط على الباي ليتنازل عن العرش، وهو ما قام به بالفعل بتاريخ 6 جويلية 1943 وفي يوم 31 جويلية تم نقله إلى تنس على الساحل الجزائري ليسكن هناك في فيلا.
وفي 17 أكتوبر 1945 وبعد أن أنهت الحرب أوزارها وتم تحرير فرنسا، نقل المنصف باي إليها حيث نفي إلى مدينة بو (Pau) بالجنوب الفرنسي، وهناك التحقت به عائلته، وكان يستقبل من يريد من الزوار، إلى أن توفي يوم غرة سبتمبر 1948 وأعيد جثمانه إلى تونس ليدفن يوم 5 سبتمبر، بوصية منه وعلى خلاف غيره من البايات بمقبرة الجلاز، وقد شارك في جنازته عشرات الآلاف من التونسيين بما يدل على ما كان له من شعبية.
Views: 36
رحمه الله