الشيخ عرفة الشابي: مؤسس أوّل كيان قومي تونسي على الأرض الإفريقية
فقيه و مُربيّ و قائد سياسي، عاش بين القرنين 15 و 16 .
عاش (عرفة الشابي) أو (سيدي عرفة) كما شاع ذكره عند العامة و حتى في المصادر الإسبانية {Cid Arfa} حسب المؤرخ {Pedro de Salaza}، في فترة عصيبة من تاريخ إفريقية التي إستحكم فيها وهن الدولة الحفصية، إذ تقلص نفوذ الحسن الحفصي فلم يعد يشمل حُكمه إلا الشمال الغربي و بعض المدن.
إحتد الخلاف بين الحضر و البدو، كثرت الإغارة و السلب و تغلغل الخوف في النفوس، و إزدحمت إفريقية بتمرد الأعراب و ترددهم و إنقضاضهم على المراكز الحضرية و السيطرة على الطرق للنهب. و نتج عن كل هذا إضطراب في الأمن و خلل في الدورة الإقتصادية و نقص في الأغذية، كما إنتشرت المجاعة و الأوبئة التي كانت سببا في إفناء عدد كبير من الناس، فأتاح هذا لعملاقي البحر الأبيض المتوسط (العثمانيين و الإسبان) أن يتنازعا السيطرة على تونس.
إحتلها العُثمانيون سنة 1534 بإسم الإسلام فأثخنوا القتل و الأسر في الحضر و البدو، و في السنة الموالية 1535 هاجمها الإسبان بتحريض من الحسن الحفصي، فأجلوا العُثمانيين عنها و إحتلوها، فأباحها لهم الحسن ثلاثة أيام من القتل و النهب.
في هذه الغمرة من الصراع ظهر عرفة الشابي أو سيدي عرفة في القيروان، كبطل قومي نافح عن ذاتية الأمة التونسية، فأعلن إستقلاله في القيروان و في الوسط و الجنوب الغربي و في الشمال الغربي و منطقة قسنطينة إلى جبال الأوراس و في بلاد سوف، و إمتد نفوذه حتى مشارف مدينة تونس. و إلتحم في حروب ضارية ضد الإسبان و عميلهم {الحسن الحفصي} و ضد العثمانيين فإنتصر عليهم جميعاً، و لقد كانوا في نظره غُزاة وحّد بينهم برغم صراعهم هدف مشترك هو السيطرة على إفريقية.
والده هو الصّوفي الكبير {أحمد بن مخلوف الشابي} مؤسس الطريقة الشابية و يُعتبر أحد أقطاب التصوف في العهد الحفصي، لهذا لقبه صوفية المشرق بـ”زهرة أهل الغرب المُنعّمة”.
تلمذ له {أحمد الغوث التباسي التوزري} و {أحمد المقنع الحنّاشي} و كان ذلك بين سنتي 1473 و 1474 فبشّرا بطريقته الشابية في إفريقية الحفصية، و شيئاً فشيئاً أخذت قاعدة مُريديه تتسع في البوادي و المدن، روّض القبائل النافرة بتربيته و إرشاده في عصر إختلطت فيه السبل، و ألجم ترددها و تمرّدها بمجالسه العلمية و الصوفية بالقيروان و برسائله التي كان يوجهها إلى المريدين وممن أشكلت عليهم بعض المسائل أو ممن لم يهتد منهم إلى إلتزام ما تفرضه الطريقة الشابية، و كذلك بتردده على هذه القبائل في مواطنها، يُحدد الأدواء المُستشرية و يوضح لها سبل العلاج فتأكد إرتباطها به أكثر فأكثر و أخلصت للطريقة الشابية، فما ترددت ساعة العسرة في أن تمتشق السلاح بقيادة {سيدي عرفة} لإلحاق مرّ الهزائم بالإسبان و السلطان الحفصي و العثمانيين.
و قد ورث مشيخة الطريقة عن أخيه الأكبر {محمد الكبير} سنة 1494، و بالرغم من أن أهمية الشيخ كانت تتمثل لدى أتباعه في سموّ تعاليمه الروحية و عُمق تأثير ولايته فيهم و قيادته للطريقة الشابية، فإن تميزه بالفقه كذلك لم يكن خفياً، و لهذا السبب شاع وصفه في المصادر المشرقية بالمالكي بإعتباره أحد أقطاب المالكية في إفريقية، و نظراً إلى جهاده ضد المسيحيين و عملائهم في فترة حروب الإسترداد التي طغى فيها المدّ المسيحي على إفريقية فقد وُسم في بعض المصادر بالمرابط.
إن تألق شخصية {سيدي عرفة} الروحية و تغلغل دعوته في قلوب الأفارقة و عُمق تأثيره فيهم جعلت المسيحيين و قادة الجيش الإسباني يطلقون عليه لقب الـ(بابا) أو (بابا القيروان)، و ذلك لأنهم وقفوا بأنفسهم أثناء معاركهم التي خاضوها ضده على حقيقة تأثيره الديني في نفوس جنوده و جنود خصومه على السواء، و قد شهدوا بأنفسهم كيف إنضم إليه جيش خصمه {الحسن الحفصي} . و قد تحدث الحاكم العسكري الإسباني لحلق الوادي {Francois de Tovar} عن القداسة التي يتمتع بها {سيدي عرفة} لدى أتباعه بقوله في رسالة مؤرخة في 30 أفريل 1538 إلى إمبراطور إسبانيا : “و يُعتبر سيدي عرفة في نظر الأهالي شخصية مقدسة تتمتع في هذه المنطقة بتأثير أكثر من تأثير الملك أو أي شخص آخر”.
و قد وصفه خصمه {الحسن الحفصي} في إحدى رسائله بالوليّ، و وصفه المؤرخ {Marmoul} بالفقيه، و وصفه المؤرخ (Bosio) بخليفة القيروان، و هو وصف يذكّر بما ورد في المؤنس من نعت لـسيدي عرفة بصاحب القيروان، أيّ من له النفوذ الروحي و السياسي فيها دون غيره، على أن القيروان لا تعني المدينة فقط و إنما تعني كذلك المناطق التي تقطنها القبائل الموالية له و تدين له بالولاء فتكوّن جميعاً الإمارة الشابية تتصدرها عاصمتها القيروان.
كما إشتهر كذلك لدى الإسبان بملك القيروان و سيّد القيروان، و قد غلبت عليه نسبته إلى بلدة الشابّة مسقط رأس والده فعُرف بالشابي.
برع {سيدي عرفة} في التصوف و في العلوم العقلية و النقلية و أخلص لتاريخ إفريقية و حضارتها فبدا بحقّ شخصية إفريقية فذة في القرن 16، فلم يكتفي بتلقين العلوم نقليّها و عقليّها، ولا خلص للإرشاد النظري المحض الذي لا صلة له بالواقع المعاش، ولا إنكب على التأليف، و إنما سخّر التدريس و الإرشاد و التأليف لغايات عملية تتمثل في القضاء على أدواء المجتمع و علله المستشرية، و في إحياء الإسلام من جديد في نفوس البدو بعد أن رانت عليها الردّة و أوطن فيها التمرد و اليأس طيلة القرون الأربعة المنقضية، و في القيام بعملية بعث قوميّ لإفريقية في فترة إزدحمت بخيانة {الحسن الحفصي} و بالحضور العسكري التركي و الإسباني.
فما كان يعتبر العلم علماً إذا لم يستحل إلى سلوك يُحقق طلبة الفرد و مناعة المُجتمع، ولا التلبّس بالطريقة الشابية تصوفاً إذا لم يحمل المريدين على إمتشاق السلاح لطرد الأتراك و الإسبان بُغية تحقيق الإستقلال القومي.
إن شهرة {سيدي عرفة} العلمية و تأكد نفوذه في بوادي إفريقية و مدنها، و من بينها تونس، بسبب الإقبال على دروسه و إعتناق طريقته قد أثار ثائرة البعض من علماء الحاضرة و حملتهم على إتخاذ مواقف ضده، أدناها مناظرته في عُقر داره لإفحامه أمام أتباعه، و أقصاها الوشاية به لدى السلطان {أبي عبد الله محمد الحفصي} للقضاء عليه نهائياً فسجن سنة 1525.
كان {سيدي عرفة} من أكبر المتكلمين في عصره و أعظم مربّ عرفته إفريقية في القرن 16، كُلف بتهذيب النفوس و تعليم العامة قبل الخاصّة بالأساليب البسيطة و باللغة الدارجة. و قد إنتقده الفقهاء لعنايته بالعامة و أسلوبه المُبسط قائلين “إن عرفة يُعلم التوحيد لرعاة البقر”، و تصوّروا أن العلم ترف لا يناله إلا الخاصّة و رياضة فكرية لا صلة لها بالعلم و حلية يكسبون بها عطف السلطان الحفصي و نواله، و أن بين العلم و الواقع المعاش قطيعة كاملة بها يتحقق أمنهم مهما إستعصت ظروف الحياة.
إلاّ أن {سيدي عرفة} آثر منذ البداية أن يكون تصوفه شعبياً يتجه إلى العامة قبل الخاصة، لذلك إستعمل اللغة الدارجة للإرشاد و التعليم و لم يتخيّر له لغة تقصر دونها أفهام الكثيرين ولا إصطفى أساليب صقلتها التجارب المتعاقبة لفرسان الفصحى ولا ركن إلى التراث الفصيح ينهل منه صوره و خيالاته بغية إصابة مكامن الإعجاز اللغوي، و إنما آثر بدلاً من ذلك اللغة الدارجة و ما يكمن فيها من صيغ و أمثلة و صور يطرح بها قضايا تصوّفه ليصل إلى أعماق القلوب، و هو قد إستجاب في هذا لحاجة الطبقة الشعبية التي سيطرت عليها الأمية في تلك الفترة و حُرمت من التعليم.
فلم يكن يهدف من وراء تلقين المُريدين أصول مذهبه الصوفي تكوين مرشدين مُخلصين للطريقة و منقطعين عن الواقع المعاش كما كان يفعل نظراؤه من مشائخ الصوفية آنذاك ممن كان تصوفهم يتسم بالسلبية بحيث لا تجد له صلة بالأوضاع السائدة، لم يكن {سيدي عرفة} مثلهم و ما كان تصوفه كذلك.
لقد وفق في إثارة الإحساس القومي و الحمية الوطنية في نفوس المُريدين عن طريق تصوفه، و من ثم إرتبط مفهوم التصوّف عنده بمفهوم الوطنية، و هو مفهوم جدّ تقدمي في القرن الـ 16.
إن النشاط المميز لـسيدي عرفة في تواضعه و أسلوبه المُختلف عن سائر فقهاء عصره، جمع حوله القبائل الإفريقية التي ساد بينها التناحر و الجهل، كطرود و الهمامة و دريد و النمامشة و أولاد سعيد و أولاد بالليل و أولاد مهلهل و الحراكته و النبايل و الحنانشة و خمير و مرداس و بني بربار و ورغة و الذواودة و شارن و أولاد بوغانم و الفراشيش، فألّف بينها و أقحمها في سياق التاريخ و أتاح لها أن تلعب دوراً نشيطاً في صياغة الأحداث بإفريقية بعد أن ظلّت طيلة خمسة قرون بمنأى عن هذا السياق، تعيش على الهامش و تمتهن الفوضى.
لقد ظفرت بهويتها القومية على يدي {سيدي عرفة} الذي شحذ فيها الإحساس المُشترك بوحدة التاريخ و الوطن و القيم في وقت إختلطت فيه السبل و بدى فيه للمسلمين أن الخضوع للأتراك هو من الدين و أن الوفاء لإحتلالهم هو الوفاء للإسلام نفسه، فتكوّن من هذه القبائل جيش قومي ليس له من هدف إلا تحرر إفريقية من الخونة و الغزاة مهما تكن ديانتهم.
و من الواضح أن {سيدي عرفة} وصل إلى الدعوة للقومية التونسية نتيجة لتحليله واقع المسلمين في عصره في مختلف أقطارهم و بخاصة واقع الخلافة العثمانية، و هو واقع يموج بالخيبات و الهزائم و يزدحم بالتخاذل و الخيانة.
لقد سقطت غرناطة آخر قلعة إسلامية في الأندلس سنة 1492 فلم تُنجد الدولة العثمانية أهلها الذين إستنجدوا بها و آثرت التخلي عنهم.
هذا الموقف فطّن سيدي عرفة إلى هول ما يجري في البلدان الإسلامية، و إلى المخاطر التي أصبحت مُحدقة بإفريقية من جراء سقوط غرناطة، و جعله يُدرك أن الإعتماد على الأتراك أو على غيرهم من المسلمين ممن لم يجمعهم وطن واحد و إحساس قُطري مُشترك في صورة تعرض إفريقية لهجوم مسيحي مُجرد وهم لا أمل فيه.
و قد وجد الحل البديل في الإعتصام بالخصوصية التونسية، فربّى القبائل تربية دينية وطنية، و أيقظ إحساسها القومي، و لقنها أن الهدف من دعوته هو الإطاحة بالحفصيين و الحفاظ على إستقلال البلاد، و ردّ المُغيرين عليها مهما تكن ديانتهم.
بيد أن هذا لم يحدث بيسر و إنما إقتضى لذلك من {سيدي عرفة} 42 سنة من الدعوة قضاها في مُثاقفة الصعاب و تأليف القبائل من حوله بالتربية الروحية و السياسية و في مواجهة المواقف الحاسمة و زيارتها في مواطنها.
و قد آلم {سيدي عرفة} ما إرتكبه القرصان العثماني {خير الدين بربروس} في تونس سنة 1534 من عسف و قتل فأخذ يُعدّ العدة لخوض الحرب ضده و ذلك بتجنيد القبائل الموالية و الكشف لها عن حقيقة الإحتلال العثماني الذي أناخ على البلاد بسبب إنهيار الدولة الحفصية و إنحلال {الحسن الحفصي}.
حتى السنة الموالية 1535 و هي السنة التي شهدت نجدته لأهل تونس الذين فتكت بهم جيوش {شارل الخامس} فحكم على {الحسن الحفصي} بالردّة لأنه تحالف مع النصارى ضد أبناء ملته، فأغاث أهل تونس إثر واقعة الإربعاء المشؤومة بـ 500 جمل قادها بنفسه و نقل عليها إلى القيروان عددا كبيراً من اللاجئين.
و إثر رجوعه إلى القيروان بادر بإعلان الجهاد و بالإستقلال بالقيروان لتكون مُنطلقاً لتحرير إفريقية من ردّة الحفصي و سيطرة الصليبيين و هيمنة الخلافة. و كان {سيدي عرفة} قد بلغ في تلك الفترة قوة تفوق قوة السلطان نفسه، إذ تأكد تفوذه في منطقة الساحل و في وسط تونس و غربها و شمالها الغربي و جنوبها الغربي و في منطقة قسنطينة إلى الأوراس و في بلاد سوف، أما الأموال التي كانت بين يديه قبل تولّيه السلطة بالقيروان فكانت تفوق ميزانية السلطان الحفصي، و كان أتباعه يفوقون الـ 140 ألف مُريد.
فهادن الأتراك بالساحل ليتفرغ لجاهد الإسبان و عميلهم {الحسن}، و كان أبرز ما عُني به في بداية أمره إستمالة طوائف من الأعراب القاطنين قرب تونس، وُسمت بالإنتساب للحفصيين و بالنكوص على الأعقاب كلّما بدا لها ذلك. لهذا بادر بالإتصال بها و بإسترضائها بوسائل مُختلفة بقصد إقناعها بشرعية عمله و بأهمية ما أقدم عليه.
واقعة باطن القرن ~ سبتمبر 1535 :
إثر إستقلال {سيدي عرفة} بالقيروان، بادر {الحسن الحفصي} بمهاجمة المدينة بإعتبارها الخطر الداهم على عرشه المُهتزّ، فإتجه إلى القيروان في أشتات من الأعراب و فرق من المسيحيين ليوقع بخصمه و يحتل المدينة المتميزة بأهميتها الروحية و العسكرية، و سلك بجيشه إلى القيروان الطريق التي أصبحت تُعرف في العهد الحسيني بثنيّة المحلّة، و تمثّلها شبكة الفحص و الجببينة و السبيخة فوصل إلى مكان يقع غربيّ القيروان و يبعد عنها 10 كلم يُسمى باطن القرن.
و لما عسكر فاجأه {سيدي عرفة} ليلاً و أجهز عليه فإنهزم و أخذت أمواله و رجع إلى تونس مكسوراً. عندما فاجأ جيش الشابيّة الجيش الحفصي ليلاً و بدأ الإلتحام أطلق جيش الشابية نداء (الله أكبر) فإنضمت أغلبية الجيش الحفصي لـ{سيدي عرفة} و تمزقت القلة الباقية، ولاذ {الحسن} بالفرار إلى تونس تاركاً وراءه أمواله و عُدته.
وقد تأكد بهزيمته هذه قيام الإمارة الشابيّة. إلاّ أن {الحسن} ظلّ عازماً على إفتكاك القيروان، فحمل عليها ثلاث مرات لم يجن منها إلاّ الخيبة، إحداها سنة 1535 و الثانية في بداية سنة 1536 و الثالثة في جوان سنة 1540.
كان جيش {سيدي عرفة} مُكوناً من أهم القبائل الموالية (الحنانشة، النمامشة، دريد، الحراكتة، بني بربار، الهمامة، أولا سعيد ..) و هو متفوق على جيش {الحسن} عدداً و حُسن تنظيم لكنه لا يختلف عنه من حيث الأسلحة، إلا أن جيش الحسن كان مكوّناً من جموع قوامها أشتات من الأعراب مُعتصمة بطمعها في أموال {الحسن} لا تنظيم لها ولا إيمان بهدف، و من هذه الناحية فهي أشبه بالزّمايل المتحركة، و من ثم فلا تخطيط يسندها ولا قيادة مؤمنة و محنكة تُحدد لها سبل العمل العسكري المُنظم، و حسب المصادر الأوروبة فقد ضمّ هذا الجيش كذلك فرقة مسيحية لا شأن لها .
أما جيش سيدي عرفة فكان مُحكم التنظيم، صُلب البناء، قوامه شباب يُمثل بإنتسابه سائر أنحاء إفريقية و بإيمانه بتحرير البلاد درع الأمة التونسية الناشئة، و طليعة قيادة رشيدة مارست توعية الشباب مُدة طويلة و كلفت بتجذير القومية فيه دونما عياء.
عندما قاد {سيدي عرفة} هذه المعركة كان عمره 64 عاماً قضى 42 سنة منها في تلك التوعية، و قد ساعده في قيادته العسكرية صفوة من أبناء الشابيّة في مقدمتهم إبناه {أحمد الشابي} و {محمد الزفزاف} الذي سيُعرف فيما بعد لدى الأوروبيين بـ(لوثر الإفريقي) و إبن أخيه {محمد بن أبي الطيّب} الذي تولّى الإمارة من بعده و قريبه {محمد بنّور}. و كان على رأس كل فرقة قبليّة في هذا الجيش قائد منها يخضع لأوامر القيادة العليا، و ليس لهذا الجيش من هدف إلا الإجهاز على العدو، لا لمطمع يتملكه ولا لصبوة يسعى إليها ولكن لنصرة الدين و إنقاذ الوطن من ردّة الحفصي و صليبيّة الإسبان و تربّص العثمانيين.
و حين وجد {سيدي عرفة} الفرصة سانحة لدخول في مواجهة ضد الأتراك، إنقضّ على الكتيبة العثمانية المتمركزة في القيروان منذ أوت 1534 و أجهز عليها، فأرسل أتراك الساحل بنجدة إلا أن أهالي القيروان إعترضوا طريقها و قتلوا نصفها و فرّ باقيها هائمين لتتلقفهم الأعراب.
وقعة المنستير ~ 12 نوفمبر 1540 :
وفّق {الحسن} بعد إلحاح طويل في إقناع الإسبان بالقتال معه ضد {سيدي عرفة}، فجمع عدداً كبيراً من الأعراب و قادهم جميعاً إلى حربه، و قد إنضمّ له الفيلق الإسباني المرابط بالمنستير بقيادة {Alvar de Sande}، و في الطريق إلى القيروان فاجأه {سيدي عرفة} في مكان يتوسط المنستير و جمّال عند الوردانين و الساحلين، و يبعد عن جمّال و المنستير نحو 10 كلم، و دارت حرب ضارية إستمرّت يوماً كاملاً من التاسعة صباحاً إلى الغروب فكانت فاصلة بين الطرفة. كان عدد جيش {الحسن} يتراوح بين الـ 100 ألف و الـ 60 ألف من بينهم 7 أو 8 آلاف فارس، لكنه كان أشبه بالزّمايل منه بالجيش المدرب المُنظبط، لغلبة الفوضى عليه و تكاثر عدده بالنساء و الأطفال الذين كانوا يُرافقونه بدون جدوى.
أما الجيش الإسباني المرافق فكان لا يتجاوز الألفين في حوزتهم البنادق و المدافع و كان يقوده {Alvar de Sande}، في حين كان عدد جيش {سيدي عرفة} من الفرسان 22 ألفاً و من المشاة 15 ألفاً و من حاملي الأسلحة النارية 600، و يقود هذا الجش {أحمد بن عرفة} بدلاً من والده الذي بلغ من العُمر آنذاك إحدى و سبعين سنة، يُساعده أخو {محمد الزفزاف} و إبن عمه {محمد بن أبي الطيب} و مملوك إسباني يُسمى {Cachazo} و هو إبن جزار بمالقة، و يقود فرقة مكوّنة من مرتزقة أتراك و أوروبيين، و المتخصصة في إستعمال الأسلحة النارية مملوك أوروبي يُسمى {Baalij}.
و الملاحظ أن {أحمد الشابي} إستعان بهذين القائدين الأوروبيين و بهذه الفرقة من المرتزقة المحدودة العدد التي أقحمها في جيشه لحذقهم إستعمال الأسلحة العصرية من بنادق و مدافع، لأنه كان يعرف أن الحرب ضد حلفاء {الحسن} من المسيحيين لن تكون لصالحه إذا لم يعتمد نفس الأسلحة التي يعتمدونها.
فلمّا إلتقى الجيشان بادر {الحسن} بالهجوم إلا أن نداء (الله أكبر) الذي دوّى من حناجر جيش الشابيّة مزّق صفوفه و إنقلب الأعراب المُرافقون له عليه و إنضموا لجيش عدوّه. و إزداد أمر {الحسن} سوءاً حين وقع صُحبة البقية من جيشه في كمين نصبه له خصمه و ذلك بإختفاء 14 ألف فارس في غابة زيتون قرب الوردانين إنقضّوا عليه في الوقت المناسب، فإنفضت من حوله هذه البقية و هرب.
أما الجيش الإسباني فقد إرتد هو كذلك على أعقابه بعد أن قاتل بشراسة و تقهقر إلى المنستير في ظلّ حماية فرقة يقودها {Louis de Rejon}، و كانت الفرقة المكونة من الأتراك و المسيحيين القدامى من جيش الشابيّة هي المكلفة من طرف {أحمد الشابي} بمقاتلة الجيش الإسباني، و لم تنفك تتعقبها حتى المنستير.
إن هزيمة {الحسن} و حلفائه في المنستير و قضاء {سيدي عرفة} على أتراك القيروان و سوسة معاً، أكدت قيامة دولة قومية تونسية ناشئة، فأسس {سيدي عرف} نظامها المالي و صكّ عُملتها من نحاس (كُتب على جانب منها ‘الله أكبر، لا إله إلا الله’. و على الجانب الثاني ‘الشيخ عرفة الشابي’). أما {الحسن الحفصي}؛ فقد إنتهى أمره لاجئاً في القيروان لدى أولاد {عرفة الشابي} بعد أن تخلى عنه الإسبان لفشله و إنعدام شعبيته و عدم قدرته على الإيفاء بإلتزاماته الماليّة تجاههم، و بعد أن إفتك إبنه {حميّده} عرشه و سمل عينيه.
توفي الشيخ سنة 1542 ليتولى إبن أخيه {محمد بن أبي الطيب} الإمارة و من بعده أبنائه، ليستمر النضال ضد الهيمنة الأجنبية طيلة أجيال، قبل أن تغلب قوة السلاح قوة العقيدة و نُبل الدعوة …
_*مصدر المقالة: الدكتور علي الشابي. (بتصرف) ___________________
أهم المراجع :
* كتاب عرفة الشابى رائد النضال القومى فى العهد الحفصي لعلي الشابي
* كتاب وصف إفريقيا لمارمول كربخال
* كتاب المؤنس في تاريخ إفريقية و تونس لإبن أبي دينار
Views: 169
أحسنت يا زينة